أدرك الشيخ راشد الغنوشي فضل الثورة التونسية عليه عندما أعادته منتصراً على الظلم إلى بلاده من منفاه الطويل، فآثر أن يرد لشعبه الجميل بالحفاظ على مكتسباتها، بدل إغراقها في أتون منافسات على مصالح فئوية قد تؤدي بالبلاد إلى وضع أسوأ من الذي كانت عليه قبل الثورة، كما حصل في بلدان عربية شهدت ثورات مماثلة.
وليس مهما الجدل حول ما سرّب على أنه رسالة من زعيم حركة «النهضة» إلى اجتماع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في تركيا في أبريل الماضي، يعلن فيها خروجه من عباءة الجماعة، مقدما «وطنيته» التونسية على مشاريع التنظيم الدولي العابرة للوطنيات، ومن ثم ما نقل عنه من نفي هذه الرسالة.
فقرارات الحركة في مؤتمرها العاشر بالتحول إلى «حزب سياسي وطني مدني ذي مرجعية اسلامية يعمل في إطار دستور البلاد ويستوحي مبادئه من قيم الاسلام والحداثة»، عكست بلا لبس هذه المراجعة العميقة لدى «النهضة» لجهة التصالح مع المجتمعات المحلية والقطع مع مرحلة التماهي مع الفكر العابر للبلدان، خصوصا أن هذا الفكر ليس جامعا، إذا أحسنا الظن، وهو من بين مسببات الأزمات والعنف في بلدان عربية عديدة، إذا لم نرد أن نحسن الظن.
تبقى تونس حالة خاصة في العالم العربي، وما يصح فيها قد لا يصح في غيرها. والمدنية التي ينحو إليها الغنوشي، مترسخة في المجتمع التونسي، رغم وجود تيار متشدد معتبر يصدّر مقاتلين إلى الخارج. وهي قد تكون في جزء منها، من ترسبات العلمنة القسرية التي فرضها نظام الحبيب بورقيبة، واستمرت مع زين العابدين بن علي، ومن معالمها إعطاء المرأة حقوقاً بأكثر مما يقضي به الإسلام ولا سيما مساواتها مع الرجل في الميراث، وفي جزء آخر نابعة من حيوية المجتمع نفسه والتي تجعل منظومة مثل الاتحاد العام للشغل، القائمة على أساس مصالح العمال والموظفين، واحدة من أكثر المجموعات تأثيرا في البلاد. لم يكن صدفة أن يكون الاتحاد أحد عناصر الرباعي الفائز بجائزة نوبل للسلام لرعايته الحوار الوطني التونسي.
لم تكن مشرقة تجربة الإخوان الذين وصلوا إلى الحكم على جناح التعاطف في أعقاب الثورات، بعد عقود طويلة من الظلم الذي تعرضوا له، حيث استفادوا من قدراتهم التنظيمية ليسعوا إلى الاستئثار والإقصاء، مثلما كان يفعل من ظلموهم. ولما لم يكونوا هم الثورة، بل فقط جزء منها، ولكنهم أرادوا حصد نتائجها بالكامل، أثارت نواياهم مخاوف شعوبهم وخشية بلدان أخرى منها دول الخليج، من إحداث اضطرابات تتجاوز الحدود، فكان سقوطهم موضع ترحيب واسع.
المسلمون اليوم بأمس الحاجة لرجال مثل الغنوشي ولحركات مثل «النهضة»، لإنقاذ صورة دينهم من براثن المتطرفين الذين خسر بسببهم الإسلام أكثر بكثير مما خسره في حملات جنكيز خان والحملات الصليبية على مدى مئات السنين خلال القرون الوسطى.
لقد سلمت «النهضة» بخسارتها الانتخابات بعدما كانت في الحكم، ومن ثم جلست جانبا خلال الانتخابات الرئاسية، أقله وفق المعلن، أو لنقل إنها قبلت أيضا بخسارة الخيار الذي كانت تفضله وهو حليفها الرئيس السابق المنصف المرزوقي. اي أنها التزمت بقواعد اللعبة الديموقراطية، وهذا هو الأساس.
كم ساهمت مواقف الغنوشي هذه في تعزيز اللحمة بين التونسيين؟ أليس معبراً مشهد زعيم «النهضة»، الإسلامي المتنور، وهو يقف في افتتاح مؤتمر حركته إلى جوار الرئيس الباجي قائد السبسي، العلماني الذي جاء بأكثر الانتخابات حرية وعدالة ونزاهة يشهدها العالم العربي، على مر تاريخه الطويل الذي لم يشهد سوى الانقلابات السوداء والخيانات والمكائد، في افتتاح المؤتمر الذي شهد حضورا سياسيا وديبلوماسيا كبيرا يليق بتاريخ حركة النهضة ومستقبلها؟
هل يعبر موقف النهضة هذا عن «كرم أخلاق»، أم أنها استشفت أن هذه هي الطريق الوحيدة التي تستطيع من خلالها العمل بشكل علني ومشروع على الساحة السياسية التونسية، بدل العودة إلى المنافي والخلايا السرية التي تعمل تحت الأرض وتتوسل العنف سبيلا لتحقيق أهدافها، أو على الأقل تتحالف مع التشدد السلامي، ولو موضوعيا؟ أيضا هذا ليس مهما، فالمهم هو النتيجة، ولا يجب في المقابل أن يُحاكم الإخوان على النوايا، فهذا أيضا يؤدي إلى إقصاء مقابل، يدفع الجماعة جبرا إلى اعتماد العنف باعتباره خيارا وحيدا، مثلما حصل بعد إلغاء انتخابات الجزائر في العام 1992 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ.