حقق الملياردير دونالد ترامب حتى الآن انجازا مهما، سيرتبط باسمه طويلا، ويضاف إلى التقدم الكبير الذي يحققه لنيل ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، هو أنه قاد ما يشبه الانتفاضة على نظام «المؤسسة» الذي يتحكم منذ زمن طويل بالسياسة الأميركية كلها، داخلية وخارجية، ويقوم عليه مفهوم النفوذ، من خلال التبرعات التي تصبها جماعات الضغط للسياسيين للتأثير في صنع السياسة.
رغم تفلّته من النظام، ربما لم يكن ترامب يقصد أن يدفع كبار ساسة الحزب للوقوف بهذه القوة ضده. لكن هؤلاء من حيث لا يقصدون أيضا أسدوا له خدمة جليلة بحملتهم عليه.
اتضح ان الأميركيين باتوا ينظرون إلى «المؤسسة» بوصفها حائطا ضخما تصطدم به طموحاتهم، وعيبا رئيسيا في ديموقراطيتهم، نظرا لقدرتها الهائلة من خلال وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الممولة من جماعات الضغط، على أن تزور إرادتهم، فلجأوا إلى من لفظتهم هذه «المؤسسة» كي يستردوا بعض حقوقهم منها.
حتى أوباما عبر عن ضيقه من «المؤسسة»، مستخدما التعبير بذاته، عندما تحدث في مقابلته مع «ذي اتلانتك» عن ان الجميع كان يتوقع منه الامتثال لما سماه «قواعد اللعبة»، حينما كان يصف كيف بقي وحيدا تقريبا في معارضته للتدخل في سورية، بينما كان مساعدوه يأتون له كل يوم باقتراحات للتدخل، تماشيا مع ما هو متوقع من الرئيس في ظل نظام «المؤسسة».
من الطبيعي عندما يكون التغيير المطلوب كبيرا إلى هذا الحد، ان تصاحب العملية بعض مظاهر العنف، مثل الذي يحصل في مهرجانات ترامب الانتخابية هذه الأيام. المرشح نفسه عنيف وتتكرر على لسانه كثيرا تعابير عنيفة واستفزازية مثل «سألكم فلانا على وجهه». لكن العنف الترامبي وجد ضالته، في خصم يكمله في انتفاضته ضد «المؤسسة»، هو الديموقراطي بيرني ساندرز، منافس هيلاري كلينتون، الإبنة المثالية لـ «المؤسسة» في حزبها. هذا التنافس - التكامل سيعود على الثنائي بالفائدة، رغم الاضطرار لإلغاء مهرجان هنا أو تجمع هناك. فهو يزيد من حماوة المعركة ويرفع حدة الاستقطاب. هل من شيء أكثر إثارة من تبادل ناري للتصريحات بين «فاشي» مثل هتلر وموسوليني، كما تصف بعض الاتهامات ترامب، و«شيوعي»، كما يصف المرشح الجمهوري نفسه ساندرز، في انتخابات رئاسية أميركية؟
إلى جانب أزمة «المؤسسة»، أو ربما كجزء منها، تعيش أميركا أزمة دور في العالم، تثار معه تساؤلات عما إذا كانت هذه الأمة التي لم تمض سوى بضع عشرات من السنين على وراثتها بعض أعرق إمبراطوريات العالم، تعاني من عوارض شيخوخة مبكرة.
من داخل «المؤسسة» وخارجها يلومون أوباما على تفريطه برصيد الولايات المتحدة بوصفها الدولة التي لا غنى عنها، ويتعهدون بإعادة سطوتها. ترامب يلوح بفرض إتاوات على الدول لحمايتها من جيرانها المشاكسين، وكلينتون تتعهد بالقيام بما لم يقم به الرئيس من تدخلات عسكرية مستحقة في هذه المنطقة أو تلك، ولا سيما باقامة منطقة حظر جوي فوق سورية.
طبعا لا يمكن لعاقل ان يتوقع أن نظام «المؤسسة» سيسقط. هو في الأساس ليس حكرا على أميركا، ولكنه فيها أكثر تنظيما ورسوخا بكثير مما هو في بعض الدول الأخرى، كما أنه مرتبط بمفهوم السلطة، بمعنى أن بديله الحالي هو الفراغ. لكن ما يمكن الحصول عليه هو تنازلات من هذه «المؤسسة» لمصلحة المواطنين العاديين.
لنأخذ انفلاش السلاح مثلا. هل يمكن ان تكون غالبية الأميركيين مع حرية امتلاك السلاح الفردي في ظل تزايد عمليات القتل الجماعي، الإرهابية والجنائية، في المدارس والشوارع والكنائس والثكنات؟ الأغلب هو أن لوبي السلاح القوي يمنع تغيير القوانين رغم الإرادة الشعبية، إذ لا يمكن لهذا الانفلاش إلا أن يثير الخوف عند المواطن العادي. الأمر نفسه ينطبق على كل الخيارات الكبرى التي تفرضها جماعات الضغط في السياستين الداخلية والخارجية.
تمكن ترامب، مستخدما ذكاءه الفطري وبريق نجاحه الشخصي، من سرقة الجمهوريين من «المؤسسة». ولم يعد من السهل وقف الأمر. وإذا نجح في الحصول على العدد الكافي من المندوبين، فسيلتف الجمهوريون حوله لأن كرههم لهيلاري أو ساندرز أكبر بكثير مما يمكن أن يكون لهم من مآخذ عليه. والذين اعترضوا عليه فعلوا ذلك في الأصل لأنه تجاوز قوانين مؤسسة الحزب، ونتيجة الضرر الذي اعتقدوا أنه سيلحقه بها.