حين قال رئيس المخابرات الفرنسية برنار باجوليه قبل أشهر إن الشرق الأوسط بحدوده التي نعرفها انتهى، وإن دولا مثل العراق وسورية لن تستعيد أبدا حدودها السابقة، لم يكن يتحدث عن المستقبل البعيد، بل عن الحاضر أو المستقبل القريب على أقصى تقدير. فالذي ينظر إلى خريطة الشرق الأوسط اليوم، لا بد أن يلمح بدء تبلور شيء ما على هذا المستوى. الدولة الكردية في شمال العراق اصبحت واقعا ينتظر مجرد استفتاء إجرائي محسوم النتيجة، وإعلانا رسميا. حتى ان دولا عديدة في العالم مهّدت مسبقا للاعتراف بها، من خلال قنصليات أقامتها في أربيل.
الصعود الكردي نحو الدولة ليس جديدا، ولا هو من تداعيات الأحداث العربية التي أطلقتها ثورة تونس في ديسمبر 2010. ربما تكون هذه فقط قد سرعت به. فهو بدأ في مطلع تسعينات القرن الماضي عند إعلان منطقة حكم ذاتي في شمال العراق، بعد هزيمة صدام حسين في الكويت وكف يده عن الشمال الكردي بشكل نهائي، ما يعني وجود سياسة ثابتة تسعى للوصول إلى هذه النتيجة، برعاية الولايات المتحدة، التي كانت وما زالت القوة الأولى في هذه المنطقة.
البائن في العراق، ليس ظاهرا تماما في سورية بعد، ولكن دور أكراد البلاد البارز في محاربة «داعش» تحت غطاء الطيران الأميركي والغربي، ونجاحهم السريع في توسيع نطاق سيطرتهم، رغم استماتة تركيا في محاولة منعهم من ذلك، يشي بجائزة ما سيحصلون عليها، ليس فقط مقابل خدماتهم في محاربة التنظيم، وإنما أيضا للوظيفة التي يمنكهم تأديتها في المستقبل، ضمن دولة كردية أو بجانبها. ففي سورية ايضا باتت هناك سياسة أميركية ثابتة بدعم الأكراد، منذ أن نجح التحالف الأميركي - الكردي في كوباني، بإلحاق أول وأكبر هزيمة بالتنظيم منذ صعوده الكبير في صيف العام 2014.
في سورية يبدو أن الأميركيين والروس قد رسموا حدودا لمناطق نفوذ كل منهم، مرشحة لأن تبقى على حالها إلى ان يصبح ممكنا إيجاد صيغة نهائية لها. وجاء الزجر الروسي العلني للرئيس بشار الأسد عندما تحدث عن نيته استعادة كامل سورية، ليؤكد تسليم موسكو بأن سيطرة أطراف غير النظام على مناطق في سورية، هو حقيقة لا يمكن العودة بها إلى الوراء.
في الوقت الحاضر لا تتوافر في سورية عناصر لإقامة دول أو دويلات ذات طابع طائفي أو عرقي أحادي أو متعدد، والأهم من ذلك، ذات حدود يمكن الدفاع عنها. لكن نجاح الدولة الكردية في العراق ولا سيما إذا جرى ضم أكراد سورية إليها، يمكن أن يمهد لإنشاء كيانات أخرى في المستقبل، مثل الدولة العلوية التي قد تضم أيضا مسيحيين وشيعة وجزءا من السنة على الساحل السوري وما يتيسر لهم من المدن والمناطق الأخرى. ثم يمكن أن يُستكمل تقسيم العراق لضم مناطق سنية فيه إلى مناطق سنية في سورية، ويبقى الجنوب دولة للشيعة ملاصقة ومتحالفة مع إيران، وتحت الجناحين الأميركي والروسي. وهذا مشروع أميركي معلن تحدث عنه جو بايدن قبل أشهر قليلة ثم جرى سحبه من التداول العلني بعد احتجاجات من بغداد.
المعركة تخاض بشكل رئيسي ضد العرب والأتراك الذين سيكونون أكبر الخاسرين فيما لو تحققت سيناريوات إقامة دول جديدة، الأولون لأن ما يحصل سيكون على حساب جغرافية دولهم، تماما كما كان الحال عند إقامة دولة إسرائيل في العام 1948، والآخرون لأن الذي يجري يعزز قوة أعدائهم القوميين، وقد يهدّد لاحقا سلامة اراضي الجمهورية التركية نفسها. مع ذلك لا يمكن القول ان المعركة حسمت، فالصراع المحتدم الذي تخوضه تركيا مع أكراد سورية وأكرادها من جهة، ومع روسيا والأسد من جهة أخرى، سيحدد إلى درجة كبيرة أين ستكون الحدود. أما على الجانب العربي، فباستثناء التحركات الخليجية، يبدو الغياب مدويا.
لم تأت أسراب الطائرات والأساطيل الحربية الدولية إلى هذه المنطقة... إلا لأن لحظة توزيع المغانم قد أزفت.