من الخميس إلى الخميس

القلم ما زالَ في جيوبهم

تصغير
تكبير

ظلّ المثقّف العربي، وكثيرٌ من أصحاب الفكر لدينا، يمارسون الهيمنة الفكرية في أطروحاتهم أمام الناس طوال عقودٍ طويلة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية ـــ غاية السيطرة والاستئثار بالخطاب، لم يجدوا أمامهم إلا تحليل الواقع، وأحياناً تمزيقه، لتكريس السيادة الفكرية وضمان استمرارهم في قيادة مجتمعاتنا.

ويخبرنا واقعنا القديم أن عدداً من الرموز الثقافية والفكرية قد ارتدوا ثياب الليبرالية والعلمانية، وعاشوا فوق سطح الماء بعيدين عن جذورهم. تنفّسوا في فضاءٍ منفصل، واستثمروا قدراتهم الفكرية المرنة لتحليل الواقع بأسلوب يُقنع العامة بثقافتهم وجمال طرحهم، لقد كانت، ولا تزال، قيادات الفكر الليبرالي تمارس لعبة الساحر الذي لا يريدك أن ترى ما تفعله اليد الأخرى، كل ذلك من أجل كسب إعجابك وإقناعك بحركاته.

إنّ تاريخ أمّتنا العربية الحديث، وتحديداً في بدايات التخلّص من النماذج القديمة كالاستعمار العسكري والهيمنة المباشرة، كشف للمحايدين عن اليد الخفية التي واصلت العزف داخل مجتمعاتنا، يدٌ صيغت تحت تأثير النموذج الغربي الذي تبنّاه الاستعمار، وحرص على تعليمه وتدريبه ليكون النموذج البديل بعد أن صار الاحتلال المباشر عبئاً لا يريد الغرب تحمُّل تبعاته.

ويمكن لأي مثقّف عربي أن يشير إلى أسماء كثيرة برزت كقيادات فكرية تدعو إلى النهج الغربي وتتبنّى أطروحاته، من تحرير المرأة إلى الهجوم على ثقافتنا وتحقير تاريخنا. وقد تكرّر ظهور هذه الأسماء في تاريخنا المعاصر، ونجحت في تشكيل تيارٍ تغريبي فصل الأمّة عن ثقافتها ولغتها، وهو اليوم يحاول فصلنا عن ديننا.

وفي عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، انتقلت مراكز هذا التيار من المشرق العربي إلى الجنوب، حيث تبنّى بعض الإعلام الخليجي بقايا الليبرالية القديمة وأعاد إحياءها. فتصدّر المشهد ليبراليون خليجيون ومن يرتبط بهم من التيارات الفكرية، يجتهدون في «تأكيد المؤكَّد» وإحياء قيم ليبراليةٍ بالية. ولم ينجحوا في إحيائها فحسب، بل استحوذوا على منصّات فكرية وإعلامية عريقة للتسلّل إلى العقل العربي.

وسيُعيد التاريخ نفسه إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، فكما كانت الليبرالية القديمة نسخةً محليّةً للاستعمار، ستكون الليبرالية الحديثة صورةً جديدةً للتغريب، تُعمّق تدمير جذور الثقافة العربية والإسلامية، لنُصبح نسخةً مشوّهةً من الحداثة، لا تسهم في مسيرة العطاء البشري التي كان يُنتظر من أمتنا العظيمة أن تقدّم فيها الكثير.

إنّ نتائج حقبة التغريب التي قادها ـــ نيابةً عن المستعمر ـــ ليبراليون متضامنون ومتعاونون، وكأنهم فريقٌ يتلقّى التعليمات من مدرّب واحد، نراها اليوم بوضوح. فالأرقام تكشف موقعنا المتأخّر في العالم من حيث البحوث والصناعات - لا سيما الثقيلة منها - واعتمادنا شبه التام على التقنية الغربية، وهي التقنية التي تصلنا أحياناً من عقولنا المهاجرة هناك.

لقد بات مؤكّداً أنّ كثيراً من تنظيرات الليبراليين ليست سوى بضاعةٍ مغشوشة، تنكشف حقيقتها عندما تناقَش قياداتُهم في أهمية الاعتماد على الذات، وتقليص الهيمنة الثقافية الغربية، والتمسّك بلغتنا مفتاحاً للعلم والثقافة، وتطوير المناهج وفق حاجاتنا لا وفق توصيات المستشارين الغربيين. عندها يعودون إلى لعبة الساحر، ويُخرجون من جيوبهم حججاً جديدة لصرف الأنظار، مقنعين بعض أصحاب القرار بأنّ الطريق نحو المستقبل لا يمرّ إلا عبر التغريب والمتواصل على أبواب أوروبا وأميركا.

وستظلّ أمّتنا تعاني ما دام القلم ما زال في جيوبهم.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي