مليارات الدولارات لإسرائيل... وظائف للأميركيين أم دعم للحرب؟

جندي إسرائيلي أمام قذائف صاروخية أميركية
جندي إسرائيلي أمام قذائف صاروخية أميركية
تصغير
تكبير

- إسرائيل تبرع في «الانقلاب الأورويلي»: مناورة خطابية وسياسية تُقلب فيها الحقائق عمداً
- الولايات المتحدة تُموّل وضعية حرب تُولّد عدم استقرار... وتكاليف دبلوماسية باهظة

عندما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن «نحو 80 في المئة من المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل تُنفق في الولايات المتحدة، ما يُعزز اقتصادها ويؤمن وظائف أميركية»، حوّل إحدى أكثر الشراكات العسكرية إثارة للجدل في العالم، إلى لغة دفاتر حسابات الشركات.

وأضاف، ببراعة «أورويلية» في الانعكاس، أن إسرائيل «تعمل على تحقيق استقلال أكبر في صناعة الدفاع»، كما لو أن خط أنابيب واشنطن الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات ليس سوى برنامج تدريب مهني سخي ستتخرج منه إسرائيل بسخاء في الوقت المناسب.

للوهلة الأولى، تبدو الحجة عادية: دافعو الضرائب الأميركيون يرسلون مليارات الدولارات إلى إسرائيل كمنح عسكرية مجانية، وإسرائيل، في بادرة خير وحسن نيات، تُعيد معظم الأموال إلى مُصنّعي الأسلحة الأميركيين.

لكن التمعن في الأمر يثير تساؤلاً لا مفر منه: هل تستفيد الولايات المتحدة حقاً من هذه الصفقة الدائرية، أم أنها تدعم آلة حرب تُعمّق الصراع، وتُمكّن شركات الدفاع العملاقة، ولا تُحقق سوى مكاسب محدودة تُركّز على الشركات في الداخل وتساعد إسرائيل على خوض الحروب؟

الجواب أكثر تعقيداً بكثير مما يوحي به تصريح نتنياهو المُقتضب - وهو أمر مُتعمّد. ما يُخفيه هذا الإطار الاقتصادي المُحكم ليس فقط حجم المساعدات، بل أيضاً التوافق السياسي الذي تعكسه: شراكة لا تكون فيها واشنطن راعياً مُتردداً، بل مُشاركاً فاعلاً، تعمل بتناغم تام مع كل حملة عسكرية إسرائيلية كبرى. لا شك أن المساعدات الأميركية تُغطي نسبة كبيرة من نفقات إسرائيل الحربية، بينما يظل العائد الإستراتيجي للولايات المتحدة غامضاً في أحسن الأحوال.

الانعكاس الأورويلي

حذّر جورج أورويل في روايته (1949) من أن «من يُسيطر على الماضي يُسيطر على المستقبل؛ ومن يُسيطر على الحاضر يُسيطر على الماضي». يُجسّد هذا الشعار، الذي ظهر في نقاشات الكنيست الإسرائيلي، كيف يتلاعب السياسيون بالروايات التاريخية لتشكيل التصورات العامة وترسيخ السلطة. وكثيراً ما تعكس لغة نتنياهو السياسية - وهو رجلٌ يخدم مصالحه الخاصة باستمرار فوق كل اعتبار - الآليات التي وصفها أورويل، محولاً رؤى الكاتب إلى أسلوب حكم عملي.

أصبحت إسرائيل بارعةً في ما يُمكن تسميته «الانقلاب الأورويلي»: مناورة خطابية وسياسية تُقلب فيها الحقائق عمداً. فيُصوَّر الحق على أنه كذب، والحرب على أنها سلام، والاحتلال على أنه تحرير، والقمع على أنه أمن، وتُعاد صياغة المنحة الأجنبية السخية على أنها منحة أو خدمة للمانح.

هذا ليس مجرد نفاق؛ بل هو إعادة هندسة منهجية للمعنى الأخلاقي والواقعي، مُصممة للحفاظ على السلطة مع إخفاء العنف وعدم المساواة اللذين تُنتجهما. شعارات مثل «الحرب سلام»، و«الحرية عبودية»، و«الجهل قوة»، أو مزاعم معاصرة مثل «الهجوم دفاع» لا تهدف إلى الإقناع منطقياً. هدفها هو محو الخط الفاصل بين الحقيقة والدعاية حتى تصبح التناقضات طبيعية. يحدث «انقلاب أورويلي» عندما يصف القادة الأفعال الضارة أو القسرية بلغة خيرة، ما يعكس القطبية الأخلاقية فعلياً. يدّعي الظالم أنه ضحية؛ ويدّعي المعتدي الدفاع عن النفس؛ وتُعاد كتابة الحقائق لتتناسب مع الأيديولوجيا.

تتكشف هذه الانقلابات عادةً في ثلاث خطوات:

أولاً، التطهير اللغوي: حيث تحل مصطلحات مثل «الأضرار الجانبية» محل «قتل المدنيين»، و«الحاجز الأمني» محل «الجدار العازل».

ثانياً، الانقلاب الأخلاقي: حيث يقدم الطرف المسؤول عن العنف نفسه على أنه الضحية أو كفاعل متردد مجبر على الفعل.

ثالثاً، التحكم في المعلومات: من خلال السيطرة على روايات وسائل الإعلام واتصالات الدولة، يتم تطبيع هذا الانقلاب، بينما يُصوَّر المعارضون على أنهم متطرفون أو يشكلون تهديداً.

تتجلى هذه الآلية كلما هدمت إسرائيل منازل أو قصفت مناطق مدنية في غزة أو لبنان أو إيران، لكنها تُصوّر هذا العمل على أنه «دفاع عن النفس». فيصبح المعتدي حامياً. وتُبرّر المراقبة والرقابة على أنهما «أمن»، ما يجعل الحرية نفسها تبدو خطرة. ويُعاد صياغة النزوح الجماعي أو الضم على أنه «تهجير طوعي» أو «تجديد حضري». وتُصبح المقاومة المدنية «إرهاباً»؛ ويصبح التدمير العسكري «حفظ سلام». ويُحاكم المُبلّغون عن المخالفات والمنتقدون بموجب «قوانين أمنية» فضفاضة وإستراتيجية لغوية ونفسية متعمدة مُصمّمة للحفاظ على الشرعية. إنه ليس مجرد كذب، بل هو انقلاب هيكلي يُجبر النقاش العام على العمل ضمن منطق الكذب.

يخدم الانقلاب الأورويلي غرضين أساسيين. يُحافظ على السيطرة الاجتماعية من خلال السماح للمواطنين بالاعتقاد بأنهم يعيشون في ظل نظام أخلاقي حتى مع مشاركتهم غير المباشرة في الظلم. يُوفّر غطاءً دبلوماسياً وأخلاقياً، ما يُمكّن الدولة من تنفيذ سياسات عدوانية مع ادعاء التفوق الأخلاقي وهو ما يفضي إلى تآكل الأخلاق العامة: ويصبح تالياً الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف، الصواب والخطأ، ضبابياً.

من «الدعم المستمر» إلى زيادته إبان الحرب

التزمت واشنطن بتقديم 3.8 مليار دولار سنوياً كتمويل عسكري أجنبي لإسرائيل حتى عام 2028 بموجب مذكرة التفاهم لعام 2016. وقد جعلت هذه الاتفاقية إسرائيل بالفعل أكبر متلقٍ تراكمي للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية.

ولكن منذ اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، تُقدر أبحاث من معهد واتسون ووثائق عامة أخرى مساعدات عسكرية بقيمة 17.9 مليار دولار خلال السنة الأولى وحدها، مع التزام ما لا يقل عن 21.7 مليار دولار على مدار عامين. قدمت حزمة «طوارئ» واحدة في سبتمبر 2024 مبلغ 8.7 مليار دولار إضافي، بما في ذلك 5.2 مليار دولار لأنظمة الدفاع الجوي مثل القبة الحديدية وشعاع الحديد الليزري.

لا شك أن المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل تشجع وتدعم الحروب والوظائف المستمرة. لكن معظم الأموال تتدفق إلى شركات الدفاع العملاقة: لوكهيد مارتن، ورايثيون، ونورثروب غرومان، وبوينغ. هذه سلاسل توريد متخصصة للغاية تهيمن عليها شركات مقاولات موحدة تتمتع بقوة ضغط هائلة، وتالياً، هذا ليس توفيراً للقوت اليومي للطبقة المتوسطة في أميركا؛ بل هو دعم موجه للبنى التحتية للشركات العسكرية.

علاوة على ذلك، فإن طموح نتنياهو العلني لتحقيق «استقلال أكبر في صناعة الدفاع الإسرائيلية» هو اعتراف صريح بأن إسرائيل تسعى إلى تقليل الاعتماد على التصنيع الأميركي. بل إن اكتفاء إسرائيل الذاتي المتزايد يعني أن الوظائف الأميركية المستقبلية قد تتقلص، لا أن تتوسع.

تُصدر إسرائيل بالفعل تقنيات المراقبة والطائرات من دون طيار ومكونات الأنظمة المضادة للصواريخ إلى عشرات الدول. ومع مرور الوقت، قد تصبح منافساً للشركات الأميركية ذاتها التي تُثريها المساعدات العسكرية حالياً. إذا كانت العلاقة تدور حقاً حول الوظائف، فإن واشنطن تستثمر في منافس مستقبلي!

ما الذي تموله واشنطن فعلياً؟

على المستوى الإستراتيجي، مكّنت الأسلحة الأميركية إسرائيل من شنّ حملاتها المكثفة في غزة، وشنّ هجماتها المتكررة في لبنان واليمن وإيران. على المستوى الأخلاقي، لا يُموّل دافعو الضرائب الأميركيون بطاريات الصواريخ فحسب؛ بل يُموّلون أيضاً نتائج تلك البطاريات. ويُتّهم المنتقدون فوراً بمعاداة السامية أو معاداة اليهود لإثارتهم المخاوف.

ويسعى ادعاء نتنياهو بأن دوافع المعارضين هي الكراهية إلى إسكات النقاش في وقتٍ تُشكّل فيه الأضرار المدنية محورَ التدقيق العالمي. يتزايد دور واشنطن كراعٍ مشارك - وليس مجرد مورد - لصراع طويل الأمد. ولا يُمحى هذا العبء الأخلاقي بحقيقة استفادة شركات الدفاع.

وهناك بُعدٌ آخر، غير مُعلن إلى حدٍّ كبير، في علاقة المساعدات الأميركية لإسرائيل، وهو الآلية السياسية الهائلة التي تُموّل، في شكلٍ مباشر وغير مباشر، من أموال دافعي الضرائب. تُقرّ إسرائيل بأن ما يقارب 20 في المئة من المنحة لا يُنفق في الولايات المتحدة؛ وعلى مدى عقود، يصل هذا الجزء المتبقي إلى مئات المليارات من الدولارات، وهو مبلغٌ ليس بالهين. في حين أن المساعدات العسكرية مُقتصرة رسمياً على الإنفاق الدفاعي، فإن تحرير الميزانية المحلية لإسرائيل يسمح بتدفق المليارات إلى حملات الضغط وبناء النفوذ والعلاقات العامة في واشنطن وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.

أنفقت الشبكات السياسية الإسرائيلية ومنظمات المناصرة والجماعات التابعة لها لعقود مبالغ طائلة في التودد إلى ممثلي الكونغرس، وإرسال الوفود والمؤثرين إلى إسرائيل، وتشكيل الروايات الإعلامية، وضمان حماية الحزبين لكل إجراء إسرائيلي، بغض النظر عن آثاره القانونية أو الإنسانية.

هذا النظام البيئي من الرحلات الممولة، و«جولات تقصي الحقائق» المُعدّة، والإحاطات الإعلامية المُصمّمة خصيصاً، والاتصالات المُوجّهة، يضمن حصول إسرائيل على حظوة سياسية في الكونغرس تتجاوز بكثير ما تتمتع به أي دولة أجنبية أخرى. في الواقع، لا يُموِّل دافعو الضرائب الأميركيون حروب إسرائيل فحسب؛ بل يُموِّلون أيضاً نظام الضغط واللوبي السياسي الذي يضمن دعم واشنطن غير المشروط ويحمي السياسات الإسرائيلية من التدقيق الجاد.

بكلمات بسيطة، من خلال تخفيف الضغط على الميزانية المحلية لإسرائيل، تُمكّن المساعدات الأميركية في شكل غير مباشر من التواصل السياسي المهم - بما في ذلك وفود الكونغرس الممولة بالكامل ورحلات التأثير المُنظّمة - المُوثّقة في ملفات أخلاقيات الكونغرس.

وتضغط إسرائيل حالياً لتمديد مذكرة التفاهم الأميركية - الإسرائيلية من 10 سنوات إلى 20 سنة، ما يضمن حصولها على ما يقارب 4 مليارات دولار سنوياً حتى عام 2048، وهو الذكرى المئوية لتأسيس الكيان. وهذا من شأنه أن يضمن لإسرائيل عقدين من التمويل الأميركي المتوقع بغض النظر عن الأحداث الإقليمية أو الاحتياجات الأميركية الداخلية. ولجعل الاقتراح أكثر قبولاً لدى ناخبي «أميركا أولاً»، تُقدّم إسرائيل المزيد من البحث والتطوير المشترك في مجال تكنولوجيا الدفاع في مجالات الذكاء الاصطناعي، والدفاع الصاروخي (بما في ذلك مفهوم «القبة الذهبية»)، والأدوات السيبرانية - وهي إستراتيجية مُعدّة لجذب المشرعين الأميركيين الذين يرغبون في وصف التحالف بأنه محرك للابتكار التكنولوجي.

لكن تمديد الاتفاق ليس مالياً فحسب؛ بل يُرسّخ مسؤولية واشنطن طويلة الأمد عن حروب إسرائيل، لأن دافعي الضرائب الأميركيين سيمولون الترسانة التي تُمكّنهم من ذلك.

إن حجة نتنياهو - بأن دافعي الضرائب الأميركيين يجب أن يكونوا ممتنين لأن أموالهم تُنفق في النهاية في المصانع الأميركية - هي تشتيت أورويلي أنيق. فالولايات المتحدة تُموّل وضعية حرب تُولّد عدم استقرار في الشرق الأوسط وتكاليف دبلوماسية باهظة في أنحاء العالم كافة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي