دمشق لن تتخلى عن استقرارها الإستراتيجي... من أجل الرواية الجديدة لواشنطن
- لماذا يخدم الخطاب الأميركي واشنطن أكثر من دمشق؟
يُمثل إعلان واشنطن، عن تعهد الرئيس السوري أحمد الشرع، الانضمام إلى التحالف الدولي لمحاربة «داعش» بقيادة الولايات المتحدة، والمساعدة في تفكيك «بقايا داعش، الحرس الثوري الإيراني، حماس، وحزب الله»، أحد أبرز التحولات الدبلوماسية التي شهدها الشرق الأوسط منذ عقود.
فللمرة الأولى منذ العام 1946، يُستقبل رئيس دولة سوري في البيت الأبيض. ويرى المسؤولون الأميركيون - بمن فيهم السفير توماس براك - أن الزيارة تُبشّر ببزوغ فجر نظام إقليمي جديد: خصومٌ تحولوا إلى حلفاء، وشراكةٌ حلت محلّ القطيعة، وسوريا تُعيد تموضعها كشريكٍ في مكافحة الإرهاب بدلاً من محور المقاومة.
ومع ذلك، يكمن وراء هذا الخطاب سؤالٌ جوهري: لماذا تتعاون سوريا مع الولايات المتحدة بينما مازالت أراضيها مقسمة، واقتصادها مُعوّق، والاحتلال والقصف الإسرائيلي مستمرين؟
تشير القراءة الواقعية إلى أن الحوافز المُقدمة لسوريا مازالت أضعف بكثير من الضغوط الهيكلية التي تُلزمها بوضعها الحالي.
لفهم ذلك، لابد من دراسة أربعة عوامل مترابطة: إرث التحالفات التي شُكّلت خلال الحرب، القضية الكردية التي لم تُحلّ، الحصار الاقتصادي الذي مازال قائماً رغم وعود الإغاثة، والاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي السورية. تُفسر هذه العوامل مجتمعةً، لماذا يُعدّ التعاون السوري مع واشنطن - على الأقل بالنطاق المُدّعى - غير مُتماسك إستراتيجياً وغير قابل للاستمرار سياسياً من دون ضمانة لاستقرار البلاد.
القضية الكردية: الصراع السوري غير المنتهي
يكمن التناقض الثاني في الوعد بأن دمشق ستدمج «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في هيكل اقتصادي ودفاعي ومدني سوري جديد. بالنسبة إلى دمشق، الملف الكردي ليس تفصيلاً إدارياً، بل أزمة سيادة.
تسيطر «قسد» على ثلث أراضي البلاد، وأغنى مناطقها الزراعية، ومعظم حقولها النفطية. وتستضيف قواعد أميركية، وتؤوي نحو 900 جندي. لا تُخفي واشنطن أن وجودها في شمال شرقي سوريا يهدف إلى منع دمشق من الوصول إلى مواردها.
بالنسبة إلى سوريا، فإن «قسد» واقع سياسي خلقته واستدامته القوة الأميركية. لا يمكن لأي حكومة سورية - سواء بقيادة الشرع أو أي جهة أخرى - إعادة تفسير كيان مسلح مدعوم أميركياً على أنه جزء شرعي من هيكل الدفاع الوطني، بينما تبقى القوات الأجنبية على الأراضي السورية، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تطبيع التقسيم.
علاوة على ذلك، فإن الفيدرالية على غرار النموذج العراقي هي بالضبط ما رفضته سوريا باستمرار لعقود. تخشى الدولة أن تُسرّع اللامركزية الرسمية من التشرذم، وتستدعي التدخل الأجنبي، وتُضعف هيكل القيادة المركزية الذي نجا من الحرب.
وهكذا، تظل المسألة الكردية العقبة الأساسية أمام أي إعادة ترتيب للتحالفات السورية - الأميركية. فما دامت الولايات المتحدة تحمي «قسد»، وتسيطر على حقول النفط، وتفرض شروطاً سياسية من خلال وجودها العسكري، فلن يكون لدى دمشق أي حافز للتعاون بشروط واشنطن.
الانهيار الاقتصادي... وإعادة التأهيل
يُسلّط بيان براك الضوء على نيات الرئيس دونالد ترامب رفع العقوبات الأميركية و«منح سوريا فرصة». لكن صانعي السياسات السوريين - بل ومعظم السكان - قد شهدوا هذه الوعود من قبل.
من حرب الخليج عام 1991 إلى دبلوماسية جون كيري الفاشلة في جنيف، غالباً ما تحولت الحوافز الغربية لسوريا إلى ضغوط أو تخل. قانون قيصر، والعقوبات الأوروبية، والقيود المصرفية، والانهيار المالي في لبنان الذي خنق الاقتصاد السوري. وهو ما دفع الملايين إلى براثن الفقر وإلى تجميد إعادة الإعمار.
ومع ذلك، طوال هذا الانهيار، لم يُقدّم الغرب أي إغاثة غير مشروطة، بل طالب فقط بتغيير سياسي تعتبره دمشق محاولاتٍ لهندسة النظام.
يشير السرد الأميركي الحالي إلى إمكان رفع العقوبات إذا تحالفت سوريا ضد إيران و«حزب الله». لكن ذاكرة سوريا الإستراتيجية عريقة: فهي تُدرك أن العقوبات ليست أداة ضغط موقتة، بل أداة هيكلية للضغط الأميركي. حتى لو أراد البيت الأبيض التغيير، يُمكن للكونغرس إعادة فرض العقوبات. قد تبقى البنوك الغربية مُتحفّظةً للمخاطرة، وسيتردد المستثمرون.
يتطلب التعافي الاقتصادي المُجدي ضمانات قانونية، واستقراراً دبلوماسياً، وإجماعاً دولياً - وهي أمورٌ لا تستطيع واشنطن تحقيقها منفردةً.
لا يُمكن لدمشق مُقايضة وضعها الجيو- سياسي والدخول في صدام مع قوى أخرى وهي مازالت تعاني عدم الاستقرار، مقابل وعودٍ قد تتبخر مع التصويت المُقبل في الكونغرس أو تغيير الإدارة.
الاحتلال الإسرائيلي: التناقض الجوهري
لعلّ العائق الأبرز أمام التعاون الإستراتيجي الأميركي - السوري هو استمرار احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان والمناطق الأخرى التي احتلت بعد سقوط نظام بشار الأسد، إضافة إلى حملة القصف المتواصلة داخل سوريا. تضرب إسرائيل مواقع للجيش السوري ومخازنه وقوات الأمن بحماية دبلوماسية أميركية، وفي بعض الأحيان بتنسيق عملياتي.
بالنسبة إلى سوريا، تُعدّ هذه الهجمات المبرر الأهم لرفض أي خطة دولية تقدم تنازلات وتحالفات من دون معالجة الاحتلال الإسرائيلي أولاً والاستقرار السياسي والاقتصاد. إن أي إعادة ترتيب إستراتيجي لا تتضمن آلية واضحة للانسحاب الإسرائيلي من الجولان، من وجهة نظر سوريا، هو فخ جيو - سياسي.
الخطاب الأميركي
يخدم الخطاب الأميركي الجديد - إعادة تأهيل سوريا، وإعادة ترتيب التحالفات، وظهور إطار عمل جديد بين الولايات المتحدة وتركيا وسوريا وإسرائيل - أهدافاً أميركية عدة:
- تقديم ترامب كصانع سلام تاريخي.
- تقسيم تحالفات إيران الإقليمية وإظهارها كعدو منبوذ في بلاد الشام.
- عزل «حزب الله».
- الحد من نفوذ روسيا في سوريا.
- إضفاء الشرعية على وجود أميركي طويل الأمد في الشمال الشرقي.
لكن هذه الأهداف لا تتوافق مع مصلحة سوريا. فأولويات دمشق الرئيسية هي:
- استعادة السيادة الإقليمية الكاملة.
- إعادة دمج الشمال الشرقي.
- إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
- تخفيف العقوبات من دون استسلام سياسي.
الفجوة بين الأولويات ليست سوء فهم دبلوماسي، بل هي هيكلية. إن أسس الدولة السورية، وذاكرة الحرب، وتوازن القوى الإقليمي، تجعل الرؤية الأميركية غير متوافقة مع الاحتياجات الإستراتيجية لسوريا.
لا يعني أيٌّ من هذا رفض سوريا للدبلوماسية. لطالما استخدمت دمشق المفاوضات والتنازلات التكتيكية واللفتات الرمزية لتخفيف الضغط، وتجنب التصعيد، أو الحصول على دعم اقتصادي.
إن إشراك الولايات المتحدة - خصوصاً إذا شاركت أنقرة وعواصم خليجية - يسمح لسوريا بإعادة تشكيل صورتها، وانتزاع تنازلات من خصومها الإقليميين، وكسب الوقت لتعزيز وضعها الداخلي. لكن الانخراط ليس استسلاماً.
يمكن لسوريا التعاون ضد خلايا «داعش» المتبقية - التي تُشكل تهديداً لجميع الدول - مع الحفاظ على تحالفاتها ومصالحها من دون البدء بمعارك جانبية جديدة. إذا فتحت سوريا قنوات مع واشنطن، فستستخدمها لإعادة بناء المجتمع الممزق، وتأمين فرص اقتصادية، وإضعاف اعتماد الأكراد على الولايات المتحدة، ولا توجد أي من هذه الشروط لإعادة سوريا إلى عافيتها مطروحة حالياً.
إن تصوير الولايات المتحدة لـ«سوريا جديدة» مستعدة لمواجهة «حزب الله» وإيران والفصائل الفلسطينية يعكس آمال واشنطن أكثر مما يعكس نيات دمشق وحماية لمصالح إسرائيل دون منع عدم الاستقرار السوري. لا يمكن للقيادة السورية التخلي عن مصلحتها الإستراتيجية واستقرارها الداخلي بينما تحتل القوات الأجنبية أراضيها، وتقصف إسرائيل بنيتها التحتية، وتخنق العقوبات اقتصادها.
قد تنخرط سوريا دبلوماسياً، أو تنضم إلى تحالفات رمزية، أو تقدم تحالفات خطابية عندما تحصل على فوائد تكتيكية. لكن الظروف الهيكلية التي شكلت تحالفاتها لم تتغير.
ربما تكون الولايات المتحدة قد حصلت على فرصة لالتقاط صورة في المكتب البيضاوي وهدايا عطرية رمزية. ولكن سوريا لم تكتسب المزيد من الضمانات الإستراتيجية اللازمة لبناء مستقبلها.
إلى أن تُسد هذه الفجوة، ستتحدث واشنطن عن «سوريا جديدة» - وستواصل سوريا العمل وفق منطق البقاء والسيادة والمقاومة القديم والمستمر.