في زمنٍ صار فيه كل شيءٍ وظيفة، ظهر نوعٌ جديد من البشر... المعارض بالتعاقد!
يدخل عالم السياسة كما يدخل ممثلٌ إلى المسرح، يتدرّب على «نبرة الغضب»، ويحفظ الشعارات مثل أبيات الشعر، ثم يبدأ العرض الكبير: «أنا الثائر الذي لا يُقهر!»
هذا المُعارض لا يرى في الخطأ فرصةً للإصلاح، بل مشهداً للتصوير.
كل أزمة عنده فرصة جديدة، فرصة للبروز والظهور الإعلامي، وكل تصريح رسمي مادة للنقد، وكل نصيحة هادئة يسمعها من المصلحين الحقيقيين هي نصيحة الجبناء وقد يتهم قائليها بالخيانة.
هو يريد أن «يُنقذ الوطن»، لكن بشرط أن يكون التصوير من الزاوية التي تُظهره هو دون سواه، تُظهره في منتصف الصورة وبالإضاءة المناسبة!
ولو سألته: «يا فلان، لماذا لا تُصلح بالكلمة الطيبة وبين أهلك في وطنك؟»
قال بثقةٍ الممثل على خشبة المسرح: «لا... الإصلاح لا يأتي إلا بالهجوم ولا يقوم إلا على إثارة المشاعر بعيداً عن أيادي السلطة، ثم يركب الطائرة، ويتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى (مناضل عالمي) يعيش في شقة دافئة ويحدثنا عن الشتاء القارس في أوطان المقهورين».
هو يظن أن الثورة بالتصريحات، والنضال باللايكات، والبطولة بالظهور الإعلامي.
أما الإصلاح الحقيقي — ذاك الذي يبدأ بالنصيحة، بالصبر، بالمثابرة، وبالهدوء — فذاك لا يناسب شخصاً يحب الضجيج أكثر من النتائج، وفي النهاية، يخرج علينا من منفاه يقول: «لقد ضحّيتُ من أجل الوطن!» فننظر حولنا... فلا نرى أي تغير، كل ما تغيّر فقط... عدد متابعيه.
من يعشق الضجيج ربما اكتشف بعد فترة أن هواه قاده إلى دروب وعرة، هؤلاء سيعودون مرة أخرى إلى درب الإصلاح الممكن، أما الذين أدمنوا دور المُعارض فهم عرضة للاستغلال من أعداء وطنهم ليكونوا أداة هدم وليس إصلاح. تغيّر عصر الثوار وانتهي زمن الشعارات.
في عام 1989 كنت أتدرّب في لندن وفي إحدى زياراتي للملحق الثقافي سألني إذا كنت رأيت الرجل الذي خرج من مكتبه، فقلت نعم لكني لم أعرفه، كان هذا الرجل ثائراً عربياً أنشأ صحيفة باللغة العربية في لندن، أخبرني الملحق أنه أتى يخيّرهم بين الدفع أو الهجوم على الكويت، الكويت لم تدفع فبدأ بالهجوم عليها وفرح وساند الغزو العراقي عليها، هذا الثائر يملك الآن ثروة كبيرة وما زال يساند من يدفع ويهاجم من لا يدفع، إنه مُعارض بالتعاقد وهو مثل حي لمصير كل من يبتعد عن مفهوم الإصلاح الحقيقي ويتبع خطوات الأوهام والبحث عن الشهرة، مصيره السقوط كأحد معاول الفساد الفاشلة، أما أمتنا العربية فسوف تُقاد من مُصلحيها المُخلصين.