وقف نار في غزة بلا «خريطة طريق»... ومستقبل غامض لـ «السلطة الانتقالية الدولية»

فلسطينية تحمل حَطباً لاستخدامه بالطهو في خان يونس (أ ف ب)
فلسطينية تحمل حَطباً لاستخدامه بالطهو في خان يونس (أ ف ب)
تصغير
تكبير

- السلطة الانتقالية الدولية موجودة فقط كاختصار... وليست إدارة
- غزة... منطقة عالقة بين الاحتلال والحكم الذاتي والدبلوماسية والإرهاق

ربما سكتت المدافع في غزة، لكن السلام لم يجد من يصونه بعد. بموجب خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المكونة من 20 نقطة لتجديد الشرق الأوسط، تم فرض الهدف الأول... «وقف الأعمال العدائية».

ومع ذلك، ما زال البند الثاني من الخطة وما يليه، والذي يطرح مفهوم «السلطة الانتقالية الدولية في غزة» (غيتا)، لغزاً دبلوماسياً. لا أحد يستطيع أن يحدد بدقة من سيحكم ويسيطر على القطاع المدمر، أو نيابةً عن مَن.

حتى بين أقرب مستشاري ترامب، هناك اعتراف ضمني بأن القيادة الإسرائيلية من غير المرجح أن تحترم روح الاتفاق. فلرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سجلٌّ طويلٌ في قبول الاتفاقيات التي تُبرم بوساطة أميركية، ثم إعادة تفسيرها أو تعطيلها.

تُدرك واشنطن وشركاؤها العرب جيداً أن إسرائيل ستبذل قصارى جهدها لتخريب أو عرقلة أو إضعاف تنفيذ أي ترتيب يُقيّد حريتها العسكرية أو يُقدّم إطاراً دولياً لغزة. يُفسّر هذا الواقع السياسي سبب صعوبة بلورة رؤية متماسكة لما بعد الحرب - ليس لأن وقف النار يفتقر إلى التوقيعات، بل لأنه يفتقر إلى الثقة والهدف الموحّد.

كان من المفترض أن تُجسّد خطة «غيتا»، كما هو مُبيّن في الخطة، إعادة الإعمار والإدارة المشتركة بعد الحرب. بدلاً من ذلك، أصبحت رمزاً للالتباس - عنواناً يبحث عن سياسة، وذريعةً دبلوماسيةً تُخفي انقساماتٍ عميقة. وراء خطاب «التجديد» و«الانتقال»، لا يوجد إجماع على الأساسيات: من يحكم غزة، ومن يُعيد إعمارها، ومن يُؤمّنها، والأهم من ذلك، من يُحاسب إسرائيل.

هدنة مبنية على الغموض

عندما وقف ترامب أمام الكاميرات في شرم الشيخ ليعلن عن رؤيته للسلام، أعلن أنه حقق ما لم يستطع أحد تحقيقه «خلال 3000 عام»... إنهاء أطول مرحلة وأكثرها تدميراً في حرب غزة.

تتحدث الوثيقة التي أصدرها البيت الأبيض عن «سلطة انتقالية بإشراف دولي لضمان الأمن وإعادة الإعمار وعودة الحياة المدنية في غزة». ومع ذلك، لا تُحدد في أي مكان من سيُشكل هذه السلطة، أو بموجب أي تفويض ستعمل، أو إلى متى ستستمر.

يُشير دبلوماسيون سراً إلى «غيتا» على أنها «عنوان يبحث عن مضمون». كل طرف يُفسرها في شكل مختلف، ولكلٍّ رؤيته الخاصة للسيطرة.

بالنسبة إلى إسرائيل، كان إنشاء «غيتا» تنازلاً ضرورياً لوقف الحرب من دون الاعتراف بالهزيمة أو تحقيق الأهداف التي حددتها الحكومة الإسرائيلية في بداية حرب العامين. وافق نتنياهو، تحت ضغط أميركي متزايد وإرهاق داخلي، على الإطار فقط لأنه سمح له بالحفاظ على الإشراف العسكري الإسرائيلي في «المناطق الحساسة أمنياً».

تُصرّ حكومته على أن تحتفظ إسرائيل بحق التدخل في أي مكان في غزة «رداً على التهديدات الإرهابية»، مما يُلغي فعلياً فكرة السيادة الكاملة للسلطة الجديدة.

طرح المسؤولون الإسرائيليون تفسيرات متضاربة لـ«غيتا»: قوة شرطة متعددة الجنسية، أو ائتلاف من الدول العربية، أو «إدارة مدنية تحت إشراف دولي». ومع ذلك، لا يُرضي أيٌّ من هذه النماذج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي تُواصل دورياتها على نحو 53 في المئة من غزة، مُشيرةً إلى ضرورة منع أي «تسلل جديد» من قِبل «حماس».

بالنسبة إلى نتنياهو ودائرته المُقرّبة، فإن «غيتا» ليست خريطة طريق للحكم، بل هي نمط دبلوماسي موقت - هيكل مُصمّم لإبراز التعاون مع تأجيل الخيارات السياسية الصعبة التي تتطلبها السيادة الحقيقية.

في الواقع، تنوي إسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق التي تبقى فيها قوات احتلالها منتشرة لأطول فترة ممكنة، من دون الالتزام بأي جدول زمني للانسحاب. ويعارض نتنياهو بشدة نشر أي قوة خارجية يمكن أن تُضعف حرية إسرائيل العملياتية أو تُضفي الشرعية على السيادة الفلسطينية.

من وجهة نظره، فإن قبول مثل هذا الوجود الدولي من شأنه أن يُخاطر بإعادة فتح مسألة تقرير المصير والمسار المؤدي إلى دولة فلسطينية - وهي فكرة ترفضها حكومته رفضاً قاطعاً.

وهكذا، وتحت لغة الانتقال والتنسيق، تعمل «غيتا» أقل كأداة للسلام وأكثر كآلية لإدامة الغموض الإستراتيجي، ما يسمح لإسرائيل بتعزيز سيطرتها الأمنية على القطاع مع تجنب المساءلة السياسية.

وقد اختارت «حماس» أيضاً تفسيرها الخاص. بينما تُشيد بوقف النار باعتباره «انتصاراً للصمود»، إلا أنها امتنعت عن رفض «غيتا» في شكل مباشر، بل وصفتها بأنها «آلية موقتة قيد التفاوض»، تاركة المجال مفتوحاً أمام إمكانية المشاركة من خلال شخصيات مدنية لجميع الغزيين المؤهلين الذين يتم اختيارهم من بين الشخصيات المقبولة.

ويرى رئيس حركة «حماس» في غزة خليل الحية، أن أي ترتيب انتقالي يجب أن يقوم على التوافق الفلسطيني، وليس إدارة الاحتلال، وهي عبارة ترفض بوضوح الإشراف الإسرائيلي لكنها تتجنب المواجهة المباشرة مع خطة ترامب.

وقد اتفقت «حماس» وجميع الفصائل الأخرى في غزة على أن فلسطينياً غزاوياً مؤهلاً ووطنياً فقط، يمكنه قيادة غزة بفريق من اختياره وإصلاح الشرطة وإعادة إعمار القطاع.

وراء الأبواب المغلقة، تُدرك «حماس» أن «غيتا» قد تتحول إلى أداة لتهميش النفوذ الفلسطيني، لا سيما إذا استثنت حق تقرير المصير الذي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية. ومع ذلك، فإن الرفض العلني قد يُشعل فتيل الأعمال العدائية أو يُعرض أموال إعادة الإعمار للخطر - وهو خطر لا تستطيع الحركة تحمله حالياً.

في الوقت الحالي، تُركّز واشنطن في شكل أساسي على الجوانب البصرية: الحفاظ على مظهر التقدم مع دحض الانتقادات بأن وقف النار يفتقر إلى المضمون السياسي. ويُوصف «غيتا» بأنه سراب سياسي يُساعد ترامب على إعلان السلام وكسب الفضل فيه، مع تأجيل أجزائه الأساسية.

الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، اللذان كانا في السابق طرفين محوريين في إعادة إعمار غزة والعمليات الإنسانية، وجدا نفسيهما مهمّشين تقريباً، ويعود ذلك أساساً إلى أن الأطراف الرئيسية المعنية تكافح للتوصل إلى اتفاق موحّد يمنع العودة إلى الحرب.

يقول مسؤولو الأمم المتحدة إنهم لم يتلقوا «أي إحاطة رسمية» في شأن هيكلية «غيتا»، رغم طلباتهم المتكررة للتوضيح.

في غضون ذلك، تعهدت بروكسل بتقديم ما يقارب من مليار يورو لإعادة إعمار غزة، لكنها تُصرّ على أن الأموال لن تتدفق «عبر وسطاء غير خاضعين للمساءلة».

على الرغم من وقف النار، تُحكم إسرائيل قبضتها على المجال الجوي والمياه الساحلية لغزة. تُسيّر طائرات من دون طيار دوريات يومية، ويحتفظ الجيش بمواقع متقدمة في مناطق تُعرف باسم «ممرات إنسانية منزوعة السلاح». يصف المسؤولون الفلسطينيون هذه المناطق بأنها مناطق احتلال بحكم الأمر الواقع - أحزمة ضيقة من الأراضي يستحيل فيها إعادة الإعمار ويُقيّد وصول المدنيين.

في الأسابيع الأخيرة، أعاقت الوحدات الإسرائيلية أيضاً دخول فرق الإنقاذ التركية، بدعوى «تأخيرات في الحصول على الموافقات الأمنية»، لكنها سمحت لفريق مصري بالمساعدة فقط في تحديد مكان الجثث الـ 11 المتبقية للأسرى الإسرائيليين الذين قُتلوا جراء القصف الإسرائيلي.

وهم الحكم

في غياب هيكلية متفق عليها، يُشبه توزيع السيطرة على غزة دولةً فاشلة تحت إشراف دولي، حيث تُملي إسرائيل المعايير الأمنية، وتُعيد «حماس» بهدوء النظام البلدي في مناطق عدة. هذه فوضى انتقالية بعد حرب مدمرة. لقد تحول المخطط المفترض لحكم ما بعد الحرب إلى تداخل في الاختصاصات وتنافس في الصلاحيات - وهو نموذج مُصغّر للخلل الأكبر الذي يُحيط بمبادرة السلام برمتها.

داخل إسرائيل، كشف الجدل حول «غيتا» عن انقسامات عميقة داخل الائتلاف الحاكم. ويُحذر كبار مسؤولي الدفاع من أن الغموض المُطوّل قد يُعيد إسرائيل في النهاية إلى غزة تلقائياً، ما يُضعف المسافة التي كان من المفترض أن يُرسيها وقف النار. في المقابل، يضغط وزراء اليمين المتطرف من أجل سيطرة عسكرية مفتوحة، بحجة أن أي انسحاب سيُعرّض قوة الردع الإسرائيلية للخطر ويُخون تضحيات العامين الماضيين. يواصل نتنياهو، الذي يحرص دائماً على عدم إغضاب واشنطن، الدفاع عن استراتيجية «غيتا» كشكل من أشكال «المرونة الاستراتيجية» - وهي عبارة تُخفي التردد وراء لغة البراغماتية.

تتحدث مصادر دبلوماسية الآن عن ثلاثة مخططات متنافسة لمستقبل «غيتا»:

1 - نموذج الأمم المتحدة: إدارة بقيادة مدنية بتنسيق الأمم المتحدة، تركز على إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الإنسانية.

2 - نموذج الأمن العربي: قوة عمل إقليمية تجمع بين الشرطة والاستخبارات والحكم المحلي المحدود.

3 - نموذج السيطرة الإسرائيلية، المدعوم ضمنياً من نتنياهو: غزة مُجزأة تُدار من خلال مناطق عازلة، وجيوب إنسانية، وسيطرة أمنية مباشرة، وحكم غير مباشر من خلال وجهاء محليين.

ربما أوقف وقف النار الذي أعلنه ترامب عمليات القتل، لكنه لم يُحدد معالم السلام. في غزة، أصبحت كلمة «انتقال» كناية عن الشلل، و«السلطة الدولية» شعاراً يُخفي صراعات على السلطة. السلطة الانتقالية الدولية في غزة موجودة فقط كاختصار، وليست إدارة.

في الوقت الحالي، لا يحكم غزة أحد، ويتأثر بها الجميع - منطقة عالقة بين الاحتلال والحكم الذاتي، والدبلوماسية والإرهاق. وبينما تحتفل واشنطن بـ«إنجازها»، يعيش سكان غزة تجربة مألوفة أخرى: سلام مُصمم من الخارج، مفروض من الأعلى، ومُهمل عمداً.

إلى أن يُجاب عن سؤال من يحكم غزة، قد تكون الحرب انتهت، لكن الصراع ما زال قائماً - مُجمداً، مُعاد تأطيره، ينتظر انفجاره التالي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي