عامان من 7 أكتوبر: حرب إسرائيل رماد غزة... وانهيار السلطة الأخلاقية

إسرائيل تعمدت منذ بداية الحرب الغاشمة تجويع الفلسطينيين
إسرائيل تعمدت منذ بداية الحرب الغاشمة تجويع الفلسطينيين
تصغير
تكبير

- أشعلت «حماس» عود الثقاب... لكن إسرائيل صبّت الوقود وضربت الفولاذ وزعمت أن النار «تطهير»
- لا يمكن لأي دولة أن تصمد أمام هذا المستوى من الانكشاف وتحتفظ بالشرعية
- في النهاية... ما تبقى ليس أمناً بل رماد

قبل عامين، شهدت إسرائيل ما قد يكون اليوم الأكثر فظاعة في تاريخها الحديث. لم تكن أحداث السابع من أكتوبر 2023 مجرد فشل عسكري أو خلل استخباراتي لإسرائيل، بل كانت إذلالاً وطنياً. اقتحمت «حماس» قوات الاحتلال ومراكز الشرطة واجتاحتها، واستولت على مواقع عسكرية وقُتل وأُسر جنود وضباط، بمن فيهم من وحدات النخبة. وسقطت فرقة غزة، رمز الهيمنة الإسرائيلية طويلة الأمد على القطاع، في حالة من الفوضى.

في خضم هذه الفوضى، استحضرت إسرائيل «مبدأ هانيبال» - وهي سياسة تسمح للقوات العسكرية بمنع أسر الجنود حتى لو كلفهم ذلك حياتهم. في ذلك اليوم، لم يكن الأمر مجرد نظرية، بل كان تنفيذاً. في غمرة الذعر، انقلبت النيران الإسرائيلية على نفسها، وتلاشى الخيط الرفيع بين حماية الدولة والتضحية بالمدنيين من أجل أهداف إستراتيجية.

لكن السابع من أكتوبر لم يكن سوى الفصل الافتتاحي. ما تلا ذلك كان حرباً لم تخضها إسرائيل منذ خمسين عاماً - وحشية، لا هوادة فيها، ومدمرة في نطاقها وطموحها. لم تُستهدف غزة فحسب؛ بل فُككت في شكل منهجي. ما بدأ انتقاماً أصبح شيئاً آخر تماماً، أي المحو.

وهم التفوق العسكري

بعد عامين، أصبحت حدود القوة العسكرية الإسرائيلية جلية في شكل مؤلم. فرغم الدعم غير المسبوق من الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة - بدءاً من الذخائر الدقيقة ووصولاً إلى معلومات استخباراتية ميدانية ومساعدة في التخطيط الإستراتيجي - فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق ما كان ينبغي أن يكون هدفاً عسكرياً أساسياً: احتلال قطاع غزة بالكامل.

365 كيلومتراً مربعاً. هذه هي المساحة الإجمالية لقطاع غزة، أي ما يقارب من نصف مساحة مدينة نيويورك. بعد عامين من أشد قصف في التاريخ الحديث، لم تتمكن إسرائيل من بسط سيطرتها عليه. ولا حتى بدعم من القوى العسكرية العالمية العظمى. ولا حتى بعد تدمير كل مبنى حيوي تقريباً. ولا حتى بعد تقسيم غزة إلى مناطق وإعلان «النصر» حياً تلو الآخر.

لم تكن المشكلة في الموارد أو القوة النارية، بل في الواقع. حرب المدن لا تُحسم بالغارات الجوية، بل تتطلب سيطرة برية، واشتباكاً عن قرب، والقدرة على الاحتفاظ بالأرض دون إثارة مقاومة جماهيرية أو تكبد خسائر بشرية لا تُحتمل. وجد الجيش الإسرائيلي، المُدرّب على الهيمنة لا على احتلال المدن، نفسه عالقاً في دوامة: دخول، تسوية، تراجع، وتكرار.

ما شهده العالم كان وحشاً عسكرياً هائلاً قادراً على تدمير أي شيء دون أن يسيطر على شيء. كانت هيمنة جيش الاحتلال الإسرائيلي من الجو مطلقة؛ أما أداؤه على الأرض فقد كشف عن ضعف و ارتباك، وفي بعض الحالات، شلل. هذا التناقض - بين التدمير والسيطرة - كشف حقيقة جوهرية هي إن القوة الساحقة لا تُترجم إلى نصر في صراع حضري غير متكافئ.

قد تكون غزة في حالة خراب، لكنها لم تُحتل بعد ولو يسيطر عليها. وهذا، أكثر من أي فشل منفرد، هو الهزيمة الصامتة التي لا تستطيع إسرائيل تفسيرها.

الهدف الحقيقي: ليس الأمن... الأرض

لم تكن حرب إسرائيل، كما زُعم رسمياً، للقضاء على «حماس» أو إنقاذ الرهائن. فهذا السرد انهار سريعاً تحت وطأة أفعال إسرائيل نفسها. منذ البداية، عوملت مفاوضات الرهائن على أنها هامشية. في كل مرة يُحرز فيها تقدم في شأن وقف نار محتمل، كان مكتب نتنياهو هو من يوقفها - لأن كل رهينة يُفرج عنه يُصعّب تبرير الحرب. كل وقف نار هدد بإبطاء الحملة بما يكفي ليطرح العالم أسئلةً مُحرجة. لم يكن الأمر يتعلق بالرهائن أبداً. بل كان يتعلق بغزة. وفي شكل أكثر تحديداً: كان يتعلق بإزالة قطاع غزة كعقبة أمام الطموحات الإيديولوجية الصهيونية.

نتنياهو، المحاصر بعدم الاستقرار السياسي، ومحاكمات الفساد، والاإئتلاف الهش الذي يُحافظ عليه اليمين المتطرف، رأى في 7 أكتوبر فرصةً لفعل ما كان دائماً مُبهماً: تطهير غزة. ليس من «حماس»، بل من الفلسطينيين. في شكل دائم. ليس بالإعلان، بل بالاستنزاف عبر القصف، والتجويع، والحصار، والصدمة. لم يكن سكان غزة المدنيون ضحايا جانبية. بل كانوا الهدف. لم يكن تدمير غزة وسيلةً لهزيمة عدو، بل وسيلةً لإعادة تشكيل واقع ديموغرافي. لم يكن هذا دفاعاً، بل كان غزواً مُتنكراً في زي الأمن.

عندما يسقط القناع

في الحرب، تكون الحقيقة هي الضحية الأولى. لكن في هذه الحرب، لم تموت الحقيقة بهدوء، بل جُرّت إلى العلن، وكشفتها الجهات عينها التي حاولت إخفاءها. بثّ الجنود الإسرائيليون الوحشية مباشرةً. أدلى المسؤولون الحكوميون بتصريحات إبادة جماعية على منصات عامة. لم تُضرب البنية التحتية المدنية بالصدفة، بل دُمِّرت عمداً.

في البداية، اختلق العالم أعذاراً. لقد هوجمت إسرائيل. كان من حقها الدفاع عن نفسها. لكن مع مرور الوقت، أزال حجم أفعالها ومدتها ووضوحها أي غموض متبقٍ. عندما يُصبح كل مستشفى ومدرسة ومنزل هدفاً، وعندما تُدمَّر أحياء بأكملها، وعندما يُستخدم التجويع سلاحاً، يُصبح من المستحيل الحديث عن «الدفاع» أو تجنب سياسة نتنياهو.

وهكذا انقلبت الموازين. ترددت الحكومات، لكن الشعوب لم تتراجع. من برلين إلى بوسطن، ومن سيدني إلى كيب تاون، تظاهر الملايين - ليس من أجل «حماس»، بل من أجل المبدأ القائل بأنه لا يحق لأي دولة، مهما كانت ضحية، أن تذبح شعباً بأكمله رداً على ذلك. لم تفقد إسرائيل الدعم العالمي فحسب، بل فقدت أيضاً الإطار الأخلاقي الذي ادعت بأنها تتمتع به لعقود. لقد وضعت نفسها كديموقراطية كاذبة محاطة بالأعداء. لكن الديموقراطيات لا تقصف مخيمات اللاجئين. ولا تبث بثاً مباشراً لمقتل الأطفال. ولا تقطع المياه عن مليوني شخص. ولا تجعل حياة الرهائن رهينة للحسابات السياسية ولا تعتبر قتل الأطفال إنجازاً.

انهيار صدقية إسرائيل

لم تكن خسارة إسرائيل خلال العامين الماضيين عسكرية، بل كانت وجودية. لقد تحطمت أسطورة القوة التي لا تُقهر. وتحطمت صورة الاستثنائية الأخلاقية، التي رُسمت بعناية شديدة لعقود. نتنياهو، الذي كان يوماً ما خبيراً في التلاعب بالرأي العام العالمي، يجد نفسه الآن معزولاً، لا يحظى بثقة أحد، حتى بين حلفائه.

ما كشفه السابع من أكتوبر هو ضعف الدولة الإسرائيلية في المجال الوحيد الذي اعتقدت أنها لا تُمس: السيطرة. لم يكن الأمر مجرد خرق للحدود، بل كان تمزقاً للجهاز بأكمله الذي حافظ على غزة لأعوام. الأسوار، والطائرات المسيرة، والذكاء الاصطناعي، والاستخبارات، والمراقبة - كلها فشلت.

وعندما سقط قناع السيطرة، لم يكن الرد إستراتيجياً - بل كان انتقاما مجرما وغاضبا خرج عن السيطرة. لكن الغضب ليس إستراتيجية. الغضب يُدمر. وعلى مدار عامين، دمّر الغضب غزة - ومعه مستقبل إسرائيل واضطلعت شعوب العالم على الظلم اللاحق بالفلسطينيين.

حسابات نتنياهو... الحرب الأبدية

خدمت الحرب نتنياهو جيداً - على الأقل في البداية. أسكتت منتقديه. وحّدت جمهوراً مُشتّتاً. أجّلت المحاكمات. أعادته إلى الواجهة. لكن المنطق الأعمق كان أكثر إثارة للقلق: الحرب هي البيئة الوحيدة التي تضمن بقاءه السياسي. السلام، على النقيض من ذلك، تهديد ويتطلب تسوية ورؤية، ونتنياهو لا يقدم أياً منهما.

في كل مرة اقترب فيها وقف إطلاق النار، كانت حكومته تُسقطه. وفي كل مرة كان الرهائن على وشك التحرر، كانت العملية تُفشل. تحرير الرهائن يعني إنهاء الحرب، وإنهاء الحرب يعني فقدان السلطة. هذه هي الحلقة المفرغة التي ميّزت قيادة إسرائيل لمدة عامين. لم يكن الرهائن أوراق مساومة، بل كانوا نفوذاً. كانوا ذريعةً للوحشية المستمرة.

وشهد العالم ذلك. كل صفقة فاشلة، وكل تخريب في اللحظة الأخيرة، جعل من الصعب التظاهر بأن الأمر يتعلق بالأمن. وبحلول نهاية العام الثاني، لم تصدق أي حكومة جادة أن نتنياهو يتصرف بحسن نية. حتى الحلفاء - عدا المتطرفين - بدأوا ينأون بأنفسهم، ليس من باب المبدأ، بل من باب الخجل.

انهيار التواطؤ الدولي

اللافت للنظر ليس أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، بل أنها فعلت ذلك مفترضةً أن العالم سيُشيح بنظره عنها. لعقود، ظل هذا الافتراض قائماً. لكن هذه المرة كانت مختلفة.

حوّلت التكنولوجيا كل هاتف إلى شاهد. كل طفل يُنتشل من تحت الأنقاض كان يُبثّ في الوقت الفعلي. تم دحض كل كذبة في ثوانٍ. شاهد العالم الجرائم كما وقعت، وشاهد إسرائيل تؤكدها بصورها الخاصة.

لا يمكن لأي دولة أن تصمد أمام هذا المستوى من الانكشاف وتحتفظ بالشرعية.

حتى في الولايات المتحدة، آخر معقل للدعم غير المشروط، تصدع الإجماع. رفض الشباب الروايات القديمة. وانضمت أصوات يهودية - رافضة إجرام الصهانية باسم ديانتهم - إلى أصوات فلسطينية. امتلأت الشوارع بالمعارضة، ليس فقط من الهامش بل من المركز. لم تعد مكانة إسرائيل كشريك محمي مضمونة.

في أوروبا، أفسح الولاء التقليدي النابع من الشعور بالذنب المجال للاشمئزاز. تشبثت الحكومات بالتحالفات القديمة، لكن الجمهور انشق. لم يعد دعم إسرائيل تعبيراً عن التضامن الغربي، بل أصبح مسؤولية سياسية.

وقف النار ولكن ليس السلام

الآن، مع تصاعد الضغوط، عادت محادثات وقف النار - هذه المرة في مصر، تحت التأثير الغريب لدونالد ترامب، الذي أضافت عودته إلى السياسة الدولية بُعداً سريالياً لصراع سريالي أصلاً. لكن قلة يعتقدون أن المحادثات ستسفر عن أي شيء دائم. لقد بنى نتنياهو قوته على الصراع وليس لديه أي حافز لإنهائه.

حتى لو تم توقيع اتفاق، فمن غير المرجح أن يصمد بكامل تفاصيله. فآلية الاحتلال، ومنطق التهجير، والرغبة في الهيمنة - كل ذلك يبقى على حاله. قد تتوقف هذه الحرب. لكن الأيديولوجية التي غذّتها مازالت تحكم إسرائيل التي ينتظر رئيس وزرائها إطلاق سراح المخطوفين الإسرائيليين ليبدأ بالتلاعب.

وهذه هي الأزمة الحقيقية: ليست القنابل، ولا الدمار، ولا حتى القتلى - بل الإيمان بأن هذا يمكن أن يستمر إلى الأبد.

ثمن النصر

قد تُعلن إسرائيل انتصارها على «حماس». قد تدّعي تحقيق نجاح إستراتيجي، لكن هذا ليس ما يراه العالم. ما يراه العالم هو أمة بنيت على الرعب والقتل والهيمنة والتوسع. أمة فقدت روحها في سعيها وراء حرب لن تكسبها حقاً. أمة سمحت للانتقام بأن يصبح سياسة، وللسياسة بأن تصبح إبادة.

بعد عامين، أصبحت غزة خراباً. لكن صدقية إسرائيل كذلك، ووهم «الجيش الأخلاقي» كذلك. وهكذا هو الحال مع رواية الدفاع عن النفس التي كانت في يوم من الأيام مقنعة للعالم. لقد أشعلت «حماس» عود الثقاب. لكن إسرائيل صبّت الوقود، وضربت الفولاذ، وزعمت أن النار، تطهير.

في النهاية، ما تبقى ليس أمناً... بل رماد.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي