أسباب الشكوى والقلق في القرن الحادي والعشرين كثيرة، بل تعاظمت بشكل حاد من جهتين لا من جهة واحدة، فهي أعظم لأن حروبه الطاحنة شملت الكرة الأرضية وعمّت أقوياءها وضعفاءها، وهي مازالت تتدفق من أوله إلى آخره حسب ما يخطط له شياطين الأرض، ويُخشى في كل سنة أن تستأنف الحرب العالمية طغيانها وفتكها بغير أمل في السلام والأمان!
والسبب الثاني أنها أكثر وأعظم لأن النفوس فيه تدّعِي الحقوقَ وتلح في المحاسبة، فلم يكن مستغرباً في ما مضى أن يُداس حق إنسان او جماعة حيث لم يكن هناك محاسبة لقوات الاحتلال وذوي السلطان على جرائمهم الإنسانية، فلما علم الناس في القرن العشرين حقوق الإنسان وأن لهم أن يُحاسبوا المعتدين على تلك الحقوق، تعاظمت شكواهم في الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بكل كبيرة وصغيرة، وتعوّدوا الشكوى من شرور الحياة كما تعوّدوا الشكوى من شرور قوات الاحتلال.
ولما أقبل القرن الـ 20 بحروبه وأسلحته بدأت الدعاوى واللجاجة في المحاسبة والاعتراض عليها في مجلس الأمن (الفيتو) فإذا بالقلق العالمي يتفاقم من جانبين - كما أسلفنا - جانب الضخامة في الشرور وجانب اللجاجة في الحاسبة والادّعاء! وهذا هو الجديد في المشكلة، فالسائلون فيه أكثر سؤالاً والمجيبون فيه ليسوا بأقدر على الجواب من سابقيهم في القرون الغابرة، سواء من الاوروبيين أو غير الاوروبيين. (ولم يبق في قاموس المراوغة مصطلح إلا واستعملوه في تصريحات وزراء الخارجية والدفاع)!
ولكن وجدنا من الحلول التي اختارها المفكرون وبعض الفلاسفة أن الشر لا وجود له ولا بقاء ولا استقرار إلا بغياب الخير، وأن الشر تربية نافعة لبني آدم وأن تجارب الأيام قد بيّنت للناس أن الشدة أنفع لهم من الرخاء في كثير من الأحيان... وأن من سُنن هذه الحياة أنها مخلوطة في الخير والشر، فهي ليست شراً محضاً ولا خيراً محضاً، وهناك الشروق والغروب والليل والنهار والشتاء والصيف والجدب والخصب، وأن الشر هو تمام الخير الذي يوجد معه ويقارنه أو يعقبه (إنّ معَ العُسر يسراً) فلا معنى للرحمة بغير الألم ولا معنى للشجاعة بغير الخطر ولا معنى للكرم بغير الحاجة ولا معنى للصفح بغير الإساءة ولا معنى للنجدة بغير الظلم.
لقد كان بعد الثورة الصناعية في أوروبا (القرن الثامن عشر) وما صاحبها من حربين عالميتين، أولى وثانية، ظهور التنافس في الدراسات والبحوث والتجارب، فأنفع المخترعات جاءت عن طريق التنافس على صنع السلاح الفعّال ولولا حب السيطرة لما بلغت الطيارة مبلغها من الإتقان ولما تضافرت الجهود على فلق الذرة والانشطار النووي وخفايا الطبيعة الفيزيائية.
حقاً إننا نعيش بين العجائب والخفايا وبغير العجائب والخفايا تصبح الحياة ثقيلة تقليدية يملُّ منها الإنسان مهما أوغل في المتع والشهوات، ولكن الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس اليوم هي (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فلذلك يجرى منهم ويصدر في مغالبة أحكام الله القدرية، وهم أعجز وأضعف من ذلك فلا يغلب عسرٌ يُسرين. وهذا فعل الله تعالى في الكون.