قادة يحطمون أجيالاً من الجانبين
إسرائيل تُدمّر فلسطين و... نفسها
- نظام قضائي يُطبّع قتل الفلسطينيين كما لو أن حياتهم لا قيمة لها على الإطلاق
- شمال القطاع هو أكبر نزوح جماعي وتهجير قسري في التاريخ الفلسطيني
في قاعات صنع القرار في تل أبيب، يُستدعى الأمن القومي كتعويذة مقدسة، تلك العبارة التي تبرر كل قنبلة تُلقى وكل منزل يُهدم. خلف الأبواب المغلقة، يتداول الوزراء والجنرالات بلغة الردع العقيمة، والضربات الاستباقية، وهندسة الأمن طويلة الأمد، كما لو كانت الحرب مشروعاً هندسياً. لكن الحقيقة التي تخفيها كلماتهم ليست نظرية - إنها دماء، وأنقاض، وأرواح محطمة لا رجعة فيها.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، الثمن باهظ. تُجبر العائلات على ترك منازلها ليس مرة واحدة بل مراراً وتكراراً، وتُجبر على إعادة بناء خيام على أرض متحركة، فقط لتُدمر من جديد. تتلاشى سبل العيش بين عشية وضحاها: مزارع تُحرق، ومتاجر تُحوّل إلى معادن ملتوية، ومدارس تُسوّى بالأرض قبل استئناف الدروس. أحياء بأكملها تتحول إلى غبار رمادي، ماحيةً جغرافية الذاكرة والانتماء.
في غزة، لا تفقد طفلةٌ ترى والديها يحترقان في غارة جوية عائلتها فحسب؛ بل تفقد أيضاً مرساة الأمان، وإطار الحب، وإمكانية طفولة عادية. سيلاحقها هذا الجرح في كل مرحلة من مراحل حياتها - في صمتها، وغضبها، وأحلامها - موصوماً هويتها بالحزن، والحرمان، والشعور بأن العالم نفسه قد تآمر على وجودها. في ذاكرة الأطفال الذين قتل منهم 20,000، لا يحمل العالم أي عدالة، ولا اعتراف بإنسانيتهم - سوى صدى طفولة تحطمت عمداً ودُفنت تحت الأنقاض.
قد تكون النتيجة الأخطر هي الطريقة التي تُقوّض بها هذه الحرب النسيج الاجتماعي للمجتمعين. بين الفلسطينيين، يمكن أن يتحول اليأس إلى تطرف، ما يُقلل من الأصوات الداعية للتعايش. بين الإسرائيليين، يُعزز التعبئة الدائمة عقلية الحصار التي تُبرر تقريباً أي إجراء ضد «عدو» يضم ملايين المدنيين.
بالنسبة إلى الإسرائيليين، العبء من نوع آخر، ولكنه ليس أقل تآكلاً. الجندي الذي يشارك في ارتكاب الجرائم بنفسه، أو يراقب عواقب أوامره، يحمل تلك الصور كظلٍّ يلاحقه. ومع ذلك، يبقى الفرق صارخاً وقاسياً: جانبٌ ينعى قتلاه تحت الأنقاض؛ والآخر يُصارع إدراكه أنه قتل.
نادراً ما تلتقي هذه الصدمات، لكنها مرتبطة في تناظرٍ غريب - مرآة مأسوية للخسارة والشعور بالذنب. وفي الوقت نفسه، يُحافظ على هذه الدورة قادةٌ يعرفون تماماً ما يفعلونه: لقد حوّلوا القسوة إستراتيجية، وحولوا السيطرة سياسة، ورضوا بالفظائع ثمناً يستحق الدفع. في أيديهم، لا تُصبح الحرب التي لا نهاية لها صدفة - بل خيار، محسوب وبارد، يُخلّد في إدراكٍ تام للدمار الذي يخلفه.
أنقاض وصدمات
أعلن الجيش الإسرائيلي شارع الرشيد، على الطرف الغربي لمدينة غزة على طول البحر، الطريق الوحيدة لمليون نسمة للهروب قبل الزحف الكبير لقوات الاحتلال. وراء هذا الأمر يكمن مخطط وحشي: تدمير المنشآت، وغزو المدينة واحتلالها و«تطهيرها».
شمال القطاع هو أكبر نزوح جماعي وتهجير قسري في التاريخ الفلسطيني، يطارده إدراك أن المقبل قد يكون أسوأ - وأن هذه المسيرة قد لا تنتهي بأمان بل بالطرد الأبدي.
الخوف حقيقي: أن يُمحى سكان غزة، تاركين وراءهم صفحة بيضاء ليفرض عليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وهمهم العقاري، «ريفييرا» يستثمرها الأثرياء، ويتجولون فيها حيث ترقد آلاف الجثث الآن تحت الأرض، إلى جانب تاريخ شعب.
من المغري الكتابة بتجريدات عن المعاناة. لكن الشهادات مؤلمة. يصف الفلسطينيون رحلتهم عبر كيلومترات من الغبار والأسى، سائرين بلا شيء - لا ممتلكات، لا مال، لا أثاث - أمام جثث أقاربهم المقطعة في الشوارع، عاجزين حتى عن دفنها. يروي آخرون، فقدوا المشاعر من وهج الصدمة، بأصوات خافتة كيف كانت الكلاب تتغذى على جثث الموتى التي لم تُدفن. تحرك الآباء الذين تمكنوا من جمع بعض أطفالهم في صمت وسط الحشد، متجهين جنوباً نحو مناطق أُعلنت «آمنة» - وهي مناطق إيواء موقتة لا تؤدي إلا إلى «مخيمات إنسانية»، حيث يُسمح بالدخول ويُمنع الخروج، ما يُهيئ أرضاً للترحيل.
لقد سُوّيت أحياء بأكملها بالأرض في الغارات الجوية، ما أدى إلى تحويل المنازل إلى غبار والعائلات إلى أشلاء. المدارس والمستشفيات ومحطات الطاقة وأنابيب المياه أصبحت أنقاضاً: لا كهرباء، لا ماء، لا دواء، لا طعام، لا مأوى. أصبحت ضروريات الحياة - الخبز والبطانية والخيمة - أوراق مساومة في لعبة سياسية، بينما بالنسبة إلى الناس العاديين، فإن غيابها هو حكم بالإعدام.
يتحمل الأطفال، قبل كل شيء، العبء الأكبر. يحذر علماء النفس من معدلات مُقلقة من الصدمات - اضطراب ما بعد الصدمة، والتبول اللاإرادي، والبكم - بين صغار السن. الطفولة هي لا يعني درس الحساب، أو دروس التاريخ، أو كتابة القصص، بل يعني تعلم التمييز بين أزيز طائرة من دون طيار وهدير مقاتلة «إف - 16»، يعني مشاهدة تاريخك يُمحى أمام عينيك. الآباء، المنكسرون، يكافحون لحماية أطفالهم من عنف يتسرب إلى كل نفس، وكل فكرة، وكل حلم.
وتحاول الحياة الساكنة، الملتوية والهشة، أن تستمر بين الأنقاض، تحت أغطية بلاستيكية، أو في فصول دراسية مُقْصَفة، أو خيام مكتظة. العائلات التي تستطيع انتشال الجثث تدفن موتاها بسرعة، غالباً من دون مراسم، حزينة ليس فقط على من فقدتهم، بل على مستقبلهم المدفون معهم: أعمال لم تُبنَ، ودروس لم تُستَفد، وأيام عادية لن تعود. آخرون، جُرِّدوا من كل شيء ينضمون إلى جموع النازحين جنوباً، غير متأكدين إلى أين يتجهون أو ما قد يحمله لهم اليوم التالي. كل غارة قصف لا تدمر مبنى فحسب؛ إنها تُحطم إمكانية إعادة بناء الحياة المدنية، حتى يصبح اليأس نفسه هو الهواء الذي تنفسه غزة. إن مشاهدة هذه المعاناة والتخلي عنها يعني ترك الدمار مستمراً من دون رادع. الصمت أيضاً يصبح سلاحاً، يُقيد العالم الخارجي بآلية الدمار ذاتها التي يتظاهر بإدانتها.
عبء المجتمع الإسرائيلي
على الجانب الإسرائيلي، تتخذ الصدمة شكلاً مختلفاً. تعيش العائلات في البلدات الجنوبية في حالة تأهب دائم، خوفاً من التعرض لهجوم من فلسطيني وحيد يسعى للانتقام من مقتل أقاربه في غزة أو الضفة الغربية.
تُصاغ المناهج المدرسية والحياة المجتمعية حول سردية الخوف والعداء، ما يُغذي خطاب الكراهية تجاه الفلسطينيين، ويُبرز ما يُسمى «خطر الأمن القومي الديموغرافي»، المتجذر في حقيقة أن الفلسطينيين لديهم عائلات أكبر. بالنسبة إلى الشباب الإسرائيلي، فإن الازدراء والكراهية تجاه الفلسطينيين متأصلان في طفولتهم نفسها.
ثم يأتي الجيش. يضمن التجنيد الإجباري أن يكون لدى كل عائلة إسرائيلية تقريباً ابن أو ابنة معرضة للقتل. يعود العديد من هؤلاء الجنود الشباب إلى ديارهم بجروح غير مرئية - اضطراب ما بعد الصدمة، وإصابة معنوية، وصراع لا ينتهي لإعادة الاندماج في الحياة المدنية. يتحدث البعض عن كوابيس لا تتلاشى، بينما يتحدث آخرون عن وطأة ما أُمروا بفعله في مناطق مكتظة بالسكان، حيث يعيش المدنيون والمقاتلون جنباً إلى جنب.
تتغلغل العسكرة في الثقافة. تُخضع السياسة والتعليم لمنطق «الأمن أولاً، وكل شيء آخر ثانياً». يضيق النقاش، وتُوصم المعارضة بالخيانة. مجتمعٌ كان يفخر يوماً بالديموقراطية ينزلق إلى الإبادة الوحشية. تُبرَّر الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والتجريد الممنهج من إنسانية الفلسطينيين، تحت غطاء حال الطوارئ الدائمة وخطاب الدفاع عن النفس. على وسائل التواصل الاجتماعي، تكتسب الدعاية نفسها أهمية كبيرة: يُظهر ملصق مُعدّل من حملة تجنيد في جيش الدفاع الإسرائيلي شاباً مبتسماً، مُدجّجاً بالسلاح، تحت عنوان: «أتحب قتل الأطفال؟ هناك مكان لك في جيش الدفاع الإسرائيلي اليوم. سواء كنت تستمتع بسحق الأطفال الصغار تحت عجلات دبابتك، أو تفجيرهم إرباً إرباً من بعيد، أو ببساطة تجويعهم حتى الموت، فهناك مستقبل باهر ينتظرك على [email protected]".
ويساهم آخرون في تأجيج هذا الجو التحريضي من خلال تداول كلمات الحاخام بريتوفيتش، الذي قال «تقول التوراة إننا نأخذ هذه الأمة التي تُدعى عماليق (الفلسطينيين) ونبيدهم. يُباد الرجال والنساء والأطفال والرضع».
الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو شهادات الجنود أنفسهم، التي تُبث علناً على وسائل التواصل الاجتماعي بأسمائهم الحقيقية وبزيهم العسكري - تصريحات من شأنها أن تُوجّه إليهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب. كتب أحد الجنود، دانيال، على حسابه على موقع «إكس»، لقد «نسيتُ من أنا ذهبتُ إلى حي سكني بكاميرا GoPro. اغتصبتُ، وأحرقتُ، وذبحتُ، واختطفتُ. لا أعرف ما الذي يحدث لي أخيراً. أشعرُ وكأنني في حيرة من أمري».
ويتباهى آخرون بجرائمهم كرموز. يرتدي الجنود قمصاناً تحمل صورة امرأة حامل محجبة، مع شعار بالعبرية والإنكليزية: «طلقة واحدة، قتيلان»، في إشارة إلى رصاصة أزالها أطباء منظمة أطباء بلا حدود من العمود الفقري لامرأة فلسطينية حامل تبلغ من العمر 29 عاماً قتلت مع جنينها. وقد شهد العديد من الأطباء على إزالة الرصاص من أجساد النساء الحوامل والأطفال، وهو دليل على الاستهداف المتعمد.
ووصفت إحدى جراحات منظمة أطباء بلا حدود الرصاص الذي أصاب الطفل نفسه ثلاث مرات، بأنه علامة مروعة على التأكيد المتعمد على القتل وطقوس انتقام. حتى عضوة الكنيست تالي غوتليف أعلنت صراحةً أن مثل هذه الأفعال ضرورية «لكي يتذكر الفلسطينيون دائماً ما فعله بهم اليهود وليس الصهاينة». وقد استشهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنفسه بالعماليق في خطاباته، وحض الإسرائيليين: «يجب أن تتذكروا ما فعله بكم عماليق»، واصفاً الحرب بأنها من نسج الخيال التوراتي. مصطلحات عدة وتوزيع المسؤولية عبر التاريخ. دعا عضو الكنيست نسيم فاتوري إلى «محو غزة من على وجه الأرض»، ووصف سكانها - رجالاً ونساءً وأطفالاً على حد سواء - بأنهم «غير أبرياء».
ومنذ ذلك الحين، ظهر العديد من الجنود في مقابلات تلفزيونية، انتشرت على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، كاشفين عن هوياتهم ويروون تجاربهم المروعة. وصف أحد الجنود عمليةً أمر فيها رفيقه، قائلاً «هل ترى تلك النافذة؟ اضرب هناك».
تردد الرفيق، مشيراً إلى وجود عائلة في الداخل. اعترف الجندي قائلاً «لا أكترث. أحرقهم جميعاً». بعد الضربة، رأى امرأة وطفلين تلتهمهم النيران، معترفاً: «انظروا كم هو ممتع مشاهدتهم وهم يحترقون». وأصر لاحقاً على أن هذه الكلمات لم تكن من باب المتعة، بل من باب الندم للتعبير عن التآكل الأخلاقي الذي ألحقته به الحرب.
يتذكر جندي آخر في مقابلة تلفزيونية «عندما كنت في منطقة قتال، ورأيت عربياً يتوسل لإنقاذ حياته ويتبول في سرواله، أطلقت رصاصة في رأسه. بعد شهر أو شهرين، فكرت: لقد قتلت شخصاً كان يتوسل لإنقاذ حياته. ربما لم يكن متورطاً - لأن ليس الجميع يكرهنا، ربما أراد البعض فقط الاستيقاظ في الصباح، وإطعام أسرهم، والعيش، وتربية الأطفال. لكن عندما أطلقت رصاصة في رأسه، تركت جرحاً لا يندمل يأتي في الليل، في الأحلام».
ومع ذلك، يبقى الفرق عصياً على التجاوز. قد يتحدث الجنود عن الصدمة، أو الشعور بالذنب، أو الكوابيس - لكنهم يفعلون ذلك بعد عودتهم إلى منازلهم سليمة، داخل كيان مغتصب يحميهم. على النقيض من ذلك، لا يحمل الفلسطينيون الذكريات فحسب: فهم يحملون التوابيت، ويدفنون العائلات، ويعيشون بين الأنقاض. جانب يُصارع شبح القتل؛ والآخر يُصارع دوامة القتل التي لا تُطاق.
صنع القرار في تل أبيب: منطق التصعيد في قلب هذه الدورة يكمن خيار سياسي.
يستخدم القادة الإسرائيليين القوة الساحقة والانتهاك المنهجي للقانون الدولي، متعمدين سياسات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، غير مكترثين بالغضب العالمي. لا يُؤمر الجنود بارتكاب أعمال وحشية فحسب، بل يُدعون إليها، ويُشجعون على اعتبار الإفراط واجباً، والفظائع إستراتيجية. في الوقت نفسه، يُربى المدنيون على احتقار الفلسطينيين حتى الموت، ويُلقَّنون أن الكراهية بحد ذاتها وطنية.
تتجلى ثقافة الاحتقار هذه بوضوح تام. يضحك مستخدمو تيك توك الإسرائيليون على قصف الفلسطينيين، محولين الموت إلى ترند. ويتباهى آخرون على وسائل التواصل الإجتماعي، وينشرون صوراً للهامبرغر، ويسخرون من أن مجاعة غزة تزيد من شهيتهم.
في صحيفة «هآرتس»، وصف الكاتب أرييل ليفني، كيف أطلق قاضٍ إسرائيلي سراح المستوطن ينون ليفي، قاتل الناشط الفلسطيني عودة هذالين من «دون سبب».
كان هذالين، الذي أُطلق عليه الرصاص في الضفة الغربية في يوليو، على مسافة بعيدة من ليفي ولم يُشكل أي تهديد على الإطلاق.
وكما لاحظ ليفني، أصبح هذا الإفلات من العقاب أمراً روتينياً - نظام قضائي يُطبّع قتل الفلسطينيين كما لو أن حياتهم لا قيمة لها على الإطلاق (ليفني، 2025).
يُصوّر كل تصعيد على أنه ضروري لاستعادة الردع - سواء من خلال الغارات الجوية على غزة، أو الغارات في الضفة الغربية، أو التوسع الاستيطاني المستمر. لكن هذا المنطق لا يُسفر إلا عن نتائج متناقصة. الردع موقت؛ المقاومة تتجدد.
إن السياسات ذاتها التي تهدف إلى حماية المدنيين الإسرائيليين تُعمّق انكشافهم، مما يضمن ألا يرى الفلسطينيون بديلاً سوى المواجهة، وأن يرى العالم إسرائيل بوضوح أكبر على أنها وحشية وغير أخلاقية. إن تدمير الحياة المدنية في غزة لا يعزل الجماعات المسلحة، بل يعزز شرعيتها، ويصوّرها على أنها الفاعل الوحيد المستعد لمقاومة الإبادة.
على الصعيد الدولي، مازال المسؤولون الإسرائيليون يصرّون على أنهم يحمون الديمقراطية. ومع ذلك، فإن السياسات التي تُسنّ باسم الأمن تُقوّض المعايير الديمقراطية داخل إسرائيل نفسها. يتعرض القضاء للهجوم، وتتقلص حريات الصحافة، ويضيق الحيز السياسي للنشاط السلمي. تصبح الحرب الدائمة إجماعاً صامتاً - المبدأ الذي يوحّد التحالفات الحاكمة حتى مع تفتيت المجتمع داخلياً. في النهاية، ليس الفلسطينيون وحدهم هم من يُحدّد مصيرهم مدى الحياة، بل الإسرائيليون أيضاً، الذين يربطهم قادتهم بمستقبل مبني على القسوة والقمع والحرب التي لا تنتهي. يدّعي القادة السياسيون الإسرائيليون أن هذه الإجراءات ضرورية لحماية شعبهم، لكنهم عملياً يضمنون أن يعيش كلا الشعبين في ظل انعدام الأمن.
المأساة الدائمة هي أن البدائل موجودة، لكنها تُرفض باستمرار في دوائر صنع القرار في تل أبيب. يُصوّر الحوار مع الفاعلين السياسيين الفلسطينيين، حتى لو كان محدوداً أو مشروطاً، على أنه ضعف. تُقطع شرايين الحياة الاقتصادية عن غزة لمعاقبة «حماس»، لكن عملياً يُعاقب مليوني مدني. تُعقد إتفاقات وقف النار المتفاوض عليها على مضض، وتتخلى عنها بسرعة.
كل هذه القرارات تُضيّق أفق الأمل، لأنه في غضون ذلك، تكيّف المجتمع الدولي إلى حد كبير مع هذه الدورة، مُصدراً بيانات قلق بينما مُقراً بحتمية تكرار الحروب. بتقصيره في الإصرار على المساءلة واحترام القوانين الدولية، تُشارك القوى الخارجية أيضاً في مسؤولية تدمير المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي.
الخلاصة: مستقبل مشترك في حالة خراب
إن القرارات التي اتُخذت في الدوائر الداخلية لتل أبيب، لا تُشكّل عناوين الأخبار اليوم فحسب بل تُحدّد مصير أجيال الغد. بالنسبة إلى الفلسطينيين، تعني هذه الخيارات طفولةً تُقضى في المقابر والأنقاض، حيث تُحلّ الجنازات محلّ الفصول الدراسية، ويصبح البقاء بحد ذاته الأفق الوحيد. أما بالنسبة إلى الإسرائيليين، فتعني تربية الأطفال في ثقافة تُطبّع فيها العسكرة، وتُعلّم الكراهية على أنها ولاء، ويُحوّل القتل إلى هواية أو شعار.
ما يُوحّد المجتمعين اليوم، ليس المصالحة، بل الصدمة - صدمةٌ فرضها، قبل كل شيء، مُدبّرو الحرب الذين حوّلوا الفظائع إلى سياسة. تُحكم على العائلات الفلسطينية بدفن أحبائها مراراً، ويُمحى تاريخها تحت غبار المنازل المهدمة. وتُحكم على العائلات الإسرائيلية بإرسال أبنائها وبناتها إلى جيش يُدربهم على نزع الإنسانية والتدمير، ثم يتركهم مصابين بجراحٍ جراء الجرائم التي يرتكبونها.
لا يقع الذنب بالتساوي، بل يقع بالتحديد على عاتق أولئك الذين اختاروا الحرب على السلام، والهيمنة على الكرامة، والقسوة على التنازل. ما لم يُكسر منطق صنع القرار المُعسكر ويُستبدل برؤية حقيقية للتعايش، سيرث كلٌ من الفلسطينيين والإسرائيليين الخراب نفسه: حروب لا تنتهي، ومجتمعات يُفرغها اليأس، وأرواحٌ تُختزل إلى ندوب - جروحٌ لن تُشفى أبداً، لا خطاب نصر، ولا استحضار للأمن، ولا كذبة دفاع عن النفس. إسرائيل لا تُدمر فلسطين فحسب؛ إنها تُدمر نفسها.