إسرائيل تبدأ التطهير العرقي في مدينة غزة وتتجه نحو قتل... جميع الرهائن
- إستراتيجية إسرائيل ليست عسكرية فحسب... بل ديموغرافية أيضاً
بدأ التطهير العرقي للفلسطينيين بتكثيف حملة القصف الإسرائيلي على مدينة غزة، تمهيداً لغزو واحتلال قد يستمران أشهراً عدة، وربما عاماً كاملاً.
في شرق المدينة، يحشر مئات الآلاف من الناس - يُقدر عددهم بأكثر من 600 ألف نسمة - في مساحات مكتظة بلا بنية تحتية، ولا مأوى، ولا ملاذ آمنا في أي مكان بالقطاع. وبمغادرتهم المدينة نجا نحو 400 ألف فلسطيني من الدمار الفوري جراء القصف الإسرائيلي حيث ينتظرهم الموت البطيء في أمكنة أخرى مكتظة وتتعرض للقصف المتقطع، لكن من تبقى من السكان عالق فيما أصبح أكثر ساحات المعارك كثافة سكانية في العالم، حيث كان يعيش ما يقارب من مليون شخص في أوقات اللاحرب.
التكلفة البشرية مذهلة وتتزايد كل دقيقة. فإستراتيجية الجيش الإسرائيلي صُممت للحد من مخاطره من خلال توجيه قوة نيران هائلة إلى المدنيين والبنية التحتية على حد سواء.
مدينة غزة مقدر لها أن تلقى مصير رفح، التي تحولت إلى أنقاض في وقت سابق من الصراع. الهدف واضح: إخلاء المدينة من سكانها، وتسوية أحياء بأكملها بالأرض، وتمهيد الطريق للعودة المحتملة للمستوطنين الذين انسحبوا عام 2005. ويُجبر أكثر من مليوني فلسطيني على العيش في جيب متقلص باستمرار، محصورين في مناطق لم تعد الحياة فيها مستدامة. والنتيجة الحتمية هي النزوح القسري - إما عبر الحدود إلى الدول المجاورة وإما إلى الصحاري المحيطة.
حشدت إسرائيل موارد عسكرية هائلة لتنفيذ هذه الحملة. وتقود الفرقتان 162 و98 العمليات في شمال مدينة غزة وجنوبها، بينما تظل الفرقتان 36 و143 وفرقة غزة على أهبة الاستعداد شرقاً، لتعزيز الهجوم.
وللحفاظ على مثل هذا الغزو واسع النطاق، استدعى الجيش 60 ألف جندي احتياطي بالإضافة إلى جنوده المحترفين. إن نشر هذه القوات الضخمة يخدم غرضاً مزدوجاً: إرهاب الفلسطينيين لإخضاعهم، وطمأنة القوات الإسرائيلية بأنه سيتم استبدالهم إذا استمرت الحرب لفترة أطول من المتوقع.
لا شك أن إسرائيل، بغض النظر عن الخسائر، تنوي احتلال مدينة غزة بأكملها ومن بعد ذلك السيطرة عليها.
بالنسبة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإن إطالة أمد الحرب أمر لا غنى عنه سياسياً. حتى لو استغرقت العملية عاماً، فيمكنه تمديدها إلى ما بعد نوفمبر 2026، موعد انتخابات الكنيست المقرر.
إذ تنتهي ولاية نتنياهو في أكتوبر من ذلك العام، ولكن من خلال الحفاظ على حالة الحرب، يمكنه تأجيل الانتخابات وترسيخ حكمه. بالنسبة إليه، فإن إعادة الانتخاب ليست مجرد مسألة سلطة سياسية، بل مسألة بقاء شخصي، لأنها تحميه من محاكمات الفساد والمساءلة القضائية والمحاسبة على الأخطاء.
في الوقت الحاضر، لا يبدو أن هناك ما يكبح جماح نتنياهو. لقد فشلت الاحتجاجات الدولية والعقوبات والحظر والإدانات من الأمم المتحدة والدول العربية والإسلامية في تغيير مسار إسرائيل. حتى الحكومات الأوروبية، وإن كانت انتقادية لفظياً، لم ترد إلا في شكل ضعيف، غير راغبة في تحدي دعم واشنطن غير المشروط.
وقد شجع الضوء الأخضر الذي منحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نتنياهو أكثر. يُقدم الزعيمان جبهة موحدة، مُصرّين على أن «حماس» ستتحمل مسؤولية أي ضرر يلحق بالرهائن الإسرائيليين. ولا يُقرّ أيٌّ منهما بمسؤولية إسرائيل عن إطالة أمد أسرهم برفضها إجراء مفاوضات جادة عندما كان من الممكن التوصل إلى اتفاقات قبل أكثر من عام.
لقد دمّرت إسرائيل بالفعل أكثر من 80 في المئة من البنية التحتية في غزة، وقتلت أو جرحت ما يقارب من 300 ألف فلسطيني، وشرّدت أكثر من مليون ونصف المليون شخص مراراً من منطقة مُدمّرة إلى أخرى.
ويُهدّد التقدّم الوشيك نحو مدينة غزة باقتلاع مليون شخص آخر، ما يُجبر العائلات على البحث عن مأوى غير موجود. وقد تمّ بالفعل القضاء على قادة المكتب السياسي لـ«حماس» ومعظم قيادتها العسكرية، مع مطاردة الناجين القلائل حتى خارج غزة - فقد حاولت الاستخبارات الإسرائيلية أخيراً اغتيالاً فاشلاً في الدوحة.
ومع ذلك، يواصل نتنياهو تحذير «حماس» من أنها ستواجه «مزيداً من المتاعب» إذا استمرت في احتجاز الرهائن، مُعلناً أن «حماس لن تكون لها حصانة في أي مكان، وإذا مُسّت شعرة واحدة من الرهائن، فسنُصعّد ردّنا». ما الكارثة التي يُمكن لـ«حماس» أن تتخيلها، وقد ألحقت إسرائيل دماراً شبه كامل بها وبغزة؟
الحقيقة هي أن اجتياح مدينة غزة سيؤدي على الأرجح إلى مقتل نصف الرهائن المتبقين على الأقل، أي جميع الرهائن المحتجزين في القطاع. بمجرد احتلال المدينة بالكامل، سيُفقَد الرهائن في الشمال وأولئك الذين كانوا سابقاً في رفح.
لقد وضع نتنياهو مساراً فعلياً لقتلهم جميعاً. عندما يحدث هذا، سيظهر على التلفزيون، كما فعل مراراً، مُعبّراً عن الحزن والغضب، واعداً بالانتقام من «حماس»، مُتنصلاً عن مسؤوليته تجاه سياساته. بالنسبة إلى «حماس»، الرهائن هم ورقة المساومة الأهم لإنهاء الحرب. سيُلغى موتهم هذا النفوذ، ولكن من المُفارقات أنه سيمنح إسرائيل الذريعة المثالية لاستكمال تدمير غزة والسعي لطرد سكانها بالكامل.
الاقتصاد يترنح
ليست الحملة العسكرية هي الجبهة الوحيدة التي يخوض فيها نتنياهو حربه. فالاقتصاد يترنح تحت وطأة التعبئة، ونفقات الحرب، والمقاطعات الدولية. يعترف نتنياهو نفسه بمعاناة الاقتصاد، وبأن إسرائيل تزداد عزلةً على الساحة العالمية. ما يغفله هو دوره المحوري في خلق هذه العزلة. فبمواءمته مع القومية المتطرفة داخل حكومته، وتبنيه لغة الإبادة العرقية، أبعد حتى أولئك الحلفاء الذين كانوا متعاطفين مع قضية إسرائيل. فحكومته أكثر انفصالاً من أي وقت مضى عن الرأي العام العالمي وعن الواقع، ومع ذلك تعتقد أن مهمتها في إبادة الشعب الفلسطيني كتفويض ديني وتاريخي.
مخاوف نتنياهو حقيقية. فهو يعلم أن آلاف الفلسطينيين، مسلحين وغير مسلحين (الذين يرفضون المغادرة)، مستعدون لمقاومة احتلال مدينة غزة شارعاً شارعاً. وهو غير متأكد من عدد الجنود الذين سيموتون في هذه العملية، وما إذا كانت الخسائر ستظل مقبولة لدى سكان إسرائيل الذين مازالوا يؤيدون الحرب إلى حد كبير. قد تُثير الزيادة الكبيرة في وفيات العسكريين استياءً في الداخل، ما يُضعف مكانته السياسية. وراء هذا التبجح يكمن خوفه الشخصي من الملاحقة القضائية بتهم الفساد.
أصبحت الحرب درعه، مُحوّلةً إياه من مُدّعى عليه مُحاصر إلى قائد حربي. لقد ربط مصيره ببقاء إستراتيجية التوحش: فإذا انتهت الحرب، ستنتهي مسيرته السياسية - وربما حريته الشخصية - معها.
أما الفلسطينيون فيواجهون كارثة وجودية. مدينة غزة، التي دُمّرت بالفعل جراء أسابيع من القصف المتواصل، أصبحت الآن مسرحاً لغزو يُهدد باقتلاع شعب بأكمله. مع احتجاز الرهائن في الداخل، صاغت إسرائيل سيناريو لا تُعتبر فيه وفاتهم نقمةً بل رصيداً سياسياً. مصيرهم لا يُحسم من قِبل «حماس»، بل من خلال إستراتيجية تُقدّر موتهم كمبرر لإبادة غزة. قرر نتنياهو، بدعم من ترامب، أن هذا هو الثمن المقبول لبقائه وتحقيق رؤية يمينية متطرفة تحلم بأرض مُفرّغة من سكانها الأصليين.
إستراتيجية ديموغرافية
فإستراتيجية إسرائيل ليست عسكرية فحسب، بل ديموغرافية أيضاً. يهدف تدمير المنازل والبنية التحتية وسبل العيش، إلى جانب استحالة البقاء في القطاع، إلى إجبار الفلسطينيين على النفي الدائم. هذا هو التعريف الحقيقي للتطهير العرقي الذي يريده نتنياهو وترامب واليمين الإسرائيلي المتطرف. أصبحت مدينة غزة الآن ساحة معركة ورمزاً في آن واحد: مكان يأمل نتنياهو أن يُظهر فيه قوة إسرائيل بينما يُدبّر طرداً جماعياً يُغيّر التوازن الديموغرافي في المنطقة.
في ظل هذه المأساة المُتكشفة، مازال المجتمع الدولي مشلولاً. تُصدر الأمم المتحدة قرارات تُتجاهل من إسرائيل. أوروبا، العالقة بين القلق الإنساني والتحالف مع واشنطن، لا تُبدي سوى احتجاج خجول. في هذه الأثناء، تتقدم إسرائيل بلا هوادة، مُحصنة بحق النقض الأميركي والتواطؤ الغربي.
ما ينتظرغزة مُتوقع. سيرتفع عدد الشهداء بين الفلسطينيين إلى عشرات الآلاف، وستُمحى أحياء بأكملها، وسيُشتت جيل بأكمله في المنفى. الرهائن الإسرائيليون، بعيداً عن البقاء على قيد الحياة، يُساقون إلى الموت على يد الجيش نفسه الذي يدّعي السعي لتحريرهم. سيظهر نتنياهو أمام الكاميرات، مُستدعياً الانتقام، مُتوعداً بحرب لا نهاية لها. وسيشاهد العالم غزة المُدمّرة أصلاً وهي تُحوّل إلى رماد، ويُسلّم شعبها إلى التهجير مرة أخرى.
هذه ليست مجرد حرب. إنها تدمير مُتعمّد لمدينة وشعب، يُنفّذ تحت غطاء الضرورة العسكرية والمسرحية السياسية. مسار نتنياهو لا يقود إلى السلام، ولا إلى الأمن، بل إلى موت الفلسطينيين والرهائن، وتطهير غزة، وترسيخ صراع سيُخلّد ندوبه في الأجيال المقبلة.