ويتكوف - براك... من يجيد قواعد لعبة نتنياهو؟
- منهج ويتكوف... إعادة التوجيه وإلقاء اللوم
- أسلوب براك... خلط المصطلحات الإسرائيلية بالوساطة الأميركية
في خضمّ دوامة الدبلوماسية الشرق أوسطية المتواصلة، يرحل المبعوثون الرئاسيون الأميركيون ويعودون بحلل عدة. بعضهم يدوم دوره بضعة أشهر، والبعض الآخر بضع رحلات فقط. نادراً ما يتركون بصمةً تُحفر في الأروقة الداخلية لواشنطن أو مكاتب بيروت أو تل أبيب.
ومع ذلك، يُشكّل مبعوثان حديثان - ستيف ويتكوف وتوماس براك - تناقضاً صارخاً، إذ كُلّف كلاهما باستكشاف حقل ألغام سياسات بنيامين نتنياهو على جبهتين مختلفتين. كلاهما ادّعى التوسط نيابةً عن واشنطن. لكن أحدهما فقط استوعب، بل ومكّن، لعبة نتنياهو للبقاء. أما الآخر فقد تعثّر، معتقداً أن الدبلوماسية يمكن ممارستها بحسن نيات مع رئيس وزراء إسرائيل المُراوغ والكاذب كما يصفه حلفاؤه، حتى المتطرفين منهم، داخل حكومته.
ما زال ويتكوف حاضراً في اللعبة لأنه استوعب منطق حكم نتنياهو القائم على أن المقترحات لا تهدف إلى حل النزاعات، بل إلى إدامتها.
على النقيض من ذلك، اعتقد براك أن الكلمات على الورق قد تُلزم إسرائيل بتقديم تنازلات، وأن الاتفاقيات الإسرائيلية المقترحة الموقعة في بيروت ستُترجم إلى التزامات في تل أبيب. فهذا الوهم كلفه تهاوي صدقيته، وفي نهاية المطاف، من الممكن أن يكلفه مهمته.
منهج ويتكوف
أصبح ويتكوف رمزاً لنوع معين من مبعوثي عهد ترامب: متهور، مُنغمس في المعاملات، وغير مبالٍ تماماً بمظهر العدالة. يعكس نهجه في مفاوضات «حماس» وإسرائيل هذه البساطة.
فهو يأخذ خطة إسرائيلية - صيغت في مكتب نتنياهو، وراجعها مستشاروه - ويمررها عبر قطر ومصر، الوسيطتين اللتين لا غنى عنهما واللتين تتمتعان بنفوذ على «حماس».
العملية مُضنية... تُناقش «حماس» الاقتراح داخلياً، وتُقيّم التكاليف، وتُصغي إلى الضغوط ومعاناة الشعب الفلسطيني، وتستخرج ما تستطيع من ضمانات أميركية تقبل في النهاية. ثم، في اللحظة التي تُعلن فيها الحركة قبولها، يرفض نتنياهو الخطة نفسها التي سمح بتمريرها، مضيفاً مطالب جديدة، ومغيراً قواعد اللعبة.
هذه هي اللحظة الحاسمة التي يثبت فيها ويتكوف قيمته. فبدلاً من فضح ازدواجية نتنياهو، يقلب الأمور رأساً على عقب. يعلن أن «حماس» رفضت الصفقة ويلقي باللوم على الفلسطينيين، ويعيد صياغة الجمود كدليل إضافي على معقولية إسرائيل.
في اللحظة التالية، يقدم ويتكوف أو ترامب نفسه اقتراحاً «جديداً» غامضاً وشاملاً، مثل «أطلقوا سراح جميع الرهائن وستنتهي الحرب».
لكن المفاجأة، بالطبع، هي أن «حماس» قد قبلت هذا الشرط قبل ذلك بوقت طويل. ينتهز نتنياهو الفرصة على الفور لإعادة تعريفه: «أطلقوا سراح جميع الرهائن في اليوم الاول من وقف إطلاق النار وسينتهي كل شيء بشروط إسرائيل».
هذه الكلمات - بشروط إسرائيل - هي محور حسابات نتنياهو السياسية. السلام بشروط أي طرف آخر يعني بالنسبة إلى رئيس الوزراء إنهاء الحرب، ومواجهة المساءلة في أكتوبر 2023، والدعوة إلى انتخابات قد تُنهي مسيرته المهنية.
إن حرباً لا نهاية لها، تُدار من خلال مطالب متغيرة ومبعوثين مُتلاعب بهم، هي أكثر أماناً بكثير.
ويدرك ويتكوف هذا الأمر. فهو يؤدي دوره بدقة: الحفاظ على وهم الدبلوماسية، وتحمّل إذلال الصفقات المُخربة، وتخفيف العبء السياسي عن كاهل نتنياهو.
ولهذا السبب، من المرجح أن يصمد ويتكوف أكثر من أقرانه. فقد تقبّل أن مهمة المبعوث ليست التوسط من أجل السلام، بل إعادة تدوير الخطاب الإسرائيلي وإدارة التوقعات الدولية والتقلب في المواقف معاً، مع نتنياهو.
أسلوب براك
دخل براك المشهد السياسي بموقف مختلف تماماً. رجل أعمال يتمتع بعلاقات وثيقة مع دائرة ترامب، تعامل مع دوره كمبعوث كما لو كانت المفاوضات عملية مباشرة.
وتُظهر مهمته إلى لبنان حماسه وفشله في آنٍ واحد. عندما أعلن الرئيس اللبناني جوزاف عون عن خطة من ثماني نقاط، سارع براك إلى رفضها وعرض ما وصفه بخطة «محسّنة» من 11 نقطة بأولويات مختلفة، واضعاً نزع سلاح «حزب الله» على رأس القائمة وهدفاً فورياً للموافقة عليه.
في واشنطن، بدت هذه خطوة جريئة؛ أما في بيروت، فقد استُقبلت كتأييد أميركي لمحاولة لبنان التوصل إلى تسوية ما دام خيار النقاش غير موجود على مبدأ «Take it or Leave it». حتى أن الحكومة والمسؤولين اللبنانيين أعلنوا قبولهم، حرصاً على تجنب المواجهة مع واشنطن. وهكذا أعلن براك النصر.
لكن براك لم يُدرك أنه كان يقع مباشرةً في فخ نتنياهو. لم تكن قائمته المكونة من إحدى عشرة نقطة أميركية حقاً - بل كانت إسرائيلية.
لم يكن هذا مصادفة. كان الرئيس جو بايدن قد اعترف قبل عام، في عام 2024، بأن واشنطن دأبت على تقديم قوائم مطالب إسرائيلية «كتبها بنيامين نتنياهو» بنفسه.
حوّل براك فعلياً مبادرة عون إلى مبادرة مختلفة وعدّل إملاءات نتنياهو، واصفاً إياها بالإنجاز الأميركي.
في غمرة النشوة، هنأ براك نظراءه اللبنانيين وسافر إلى إسرائيل متوقعاً مكافأة نجاحه. لكنه اكتشف أن نتنياهو قد غيّر مساره بالفعل. ما بدا وكأن انتصاراً إسرائيلياً على الورق تم تجاهله باعتباره غير كافٍ. والأسوأ من ذلك، أن براك ارتكب خطأً فادحاً ثانياً: عاد إلى بيروت وأبلغ المسؤولين اللبنانيين بالحقيقة دون مواربة أن إسرائيل لم تعد تقبل بما وُعدت به.
لم يكن هذا مجرد خسارة لماء الوجه؛ بل كان كشفاً عن سذاجة في فن دبلوماسية نتنياهو وخداعه. لقد فشل براك في القيام بواجبه في شأن مناورات رئيس الوزراء وتاريخه، أو ما يسميه الآخرون بصراحة أكاذيب. لم يستطع أن يتصور أنه حتى اقتراح يحاصر «حزب الله» في مواجهة مع حكومته، وربما يمهد الطريق للتصعيد العسكري، سيظل مرفوضاً من أجل «إسرائيل الكبرى».
بالنسبة إلى نتنياهو، فإن الحسابات لا تتعلق بتحقيق الأهداف الإسرائيلية على المدى القصير. إنها تتعلق بعدم السماح أبداً بإبرام صفقة، وعدم السماح أبداً للدبلوماسية بتجميد ساحة المعركة. غادر براك تل أبيب وقد تحطّمت أوهامه وصدقيته في حال يرثى لها. كان تصريحه الأخير - بأن «عالم إسرائيل قد تغير، حيث لا معنى للحدود، وستذهب إسرائيل حيث تشاء، وقتما تشاء» - إعترافاً منه بأنه قد تم التفوق عليه أكثر من كونه بيان وساطة.
قاعدة نتنياهو في اللعبة
يتلخص التناقض بين ويتكوف وبراك في قاعدة بسيطة: في عالم نتنياهو، كل مقترح إسرائيلي ينتهي مفعوله لحظة مغادرته منصبه.
تفسر هذه القاعدة سبب بقاء موافقة «حماس» على آخر قائمة من مقترحات ويتكوف (وقبلها) من دون رد لأكثر من شهر. الصمت ليس تردداً؛ بل إستراتيجية. كلما طال انتظار «حماس»، زادت قدرة نتنياهو على الادعاء بأن المقترح قد عفا عليه الزمن، وأن «الظروف قد تغيرت»، وأنه يجب إصدار مطالب جديدة والاستعداد لحرب أخرى على مدينة غزة. دور المبعوث هو تغطية هذا التأخير، والحفاظ على وهم التحرك حياً.
مع ذلك، تعامل براك مع شروط نتنياهو على أنها تعهدات مُلزمة.
عندما طلب براك من إسرائيل الانسحاب من التلال الخمس، أو حتى التلة أو التلتين، التي احتلتها أخيراً، ردّ بالاستيلاء على تلتين إضافيتين وقصف مواقع عدة في لبنان لإستفزاز «حزب الله» أكثر. سخرت وسائل الإعلام الإسرائيلية من «سذاجة» براك، واصفةً إياه بالهاوٍ الذي يؤمن بالكتابة بدلاً من تغيير الحقائق.
هذه هي عبقرية نتنياهو ولعنته: إنه يزدهر بالمفاوضات التي تنتهي من دون حل. الصفقات مسرحية، والحروب جوهرية. أي مبعوث ينسى هذا يصبح قابلاً للاستهلاك.
لماذا يدوم أحدهما ولا يدوم الآخر؟
الدرس المستفاد من هذين المبعوثين قاسٍ. نجا ويتكوف لأنه تبنى أداء نتنياهو ومكّنه. فهو لا يتوقع أن تصمد المقترحات، ولا أن تصمد الاتفاقات. مهمته هي الحفاظ على مظهر الدبلوماسية، وإعادة توجيه اللوم، وحماية رئيس الوزراء من المساءلة. وقد حقق نجاحاً باهراً في ذلك.
على النقيض من ذلك، فشل براك لأنه آمن بالدبلوماسية السطحية. ظنّ أن إعادة ترتيب الأوراق وإعلان اختراق قد يُرسّخ مسار إسرائيل. لكنه بدلاً من ذلك، أدرك أن كل صفقة في لعبة نتنياهو تنهار لحظة قبولها.
التداعيات الأوسع على السياسة الأميركية قاتمة. لم تعد الوساطة الأميركية في الشرق الأوسط تُعنى بالحلول، بل أصبحت تُعنى بإدارة المشهد، وإدامة حروب إسرائيل، وكسب الوقت حتى يُقرر نتنياهو أن بقاءه السياسي لم يعد يعتمد على الصراع الدائم.
المفارقة قاسية لكنها واضحة: المبعوث الذي يتلاعب بالواقع يبقى؛ أما المبعوث الذي يتعامل مع الحقائق فلا يملك أي فرصة للنجاح ويفقد صدقيته. ما دام نتنياهو في السلطة، فستكون هذه هي القاعدة الوحيدة للعبة.