عندما تصمت المدافع سيظهر ضعف الجيش «الذي لا يقهر»

«إسرائيل الكبرى»... أسطورة نتنياهو تصطدم بالواقع




تظاهرات في تل أبيب تُطالب بوقف الحرب وإعادة الرهائن 	(رويترز)
تظاهرات في تل أبيب تُطالب بوقف الحرب وإعادة الرهائن (رويترز)
تصغير
تكبير

- ترامب قد يضغط على نتنياهو من أجل فترات توقف تكتيكية للحد من ردات الفعل السياسية... وسيتم إبقاء لبنان وإيران على حافة الهاوية
- الإسرائيليون استيقظوا على حقيقة فشل جيشهم رغم منحه رخصة التصرف من دون قيود

في العامين الماضيين، شنّت إسرائيل حرباً بدم بارد على غزة، مجزرة أقرّتها أعلى مستويات الحكومة، صُمّمت لترك ندوب عميقة لأجيال مقبلة. يضاهي هذه المجازر نكبة عام 1948، عندما مهّدت المجازر في المدن والقرى الفلسطينية الطريق للتهجير الجماعي. واليوم، لا تقلّ الخطة وحشية: إجبار الفلسطينيين على النزوح مرة أخرى من غزة، هذه المرة تحت أنقاض مدنهم المدمرة.

لقد سيطرت إسرائيل بالفعل على أكثر من 70 في المئة من القطاع. وتتمركز قواتها الآن على بُعد أقل من كيلومتر ونصف الكيلومتر من قلب مدينة غزة القديمة، مُعدّةً لهجوم شامل يهدف إلى تهجير 750 ألف نسمة. ومع ذلك، وفي خضمّ هذا الدمار المستمر، تواجه إسرائيل حقيقةً لطالما أنكرتها وهي ان التفوق العسكري لا يُعادل النصر السياسي.

فعلى مدار ما يقارب من عامين، تحولت غزة إلى أنقاض تحت قصف متواصل، قُتل وجُرح أقل من ربع مليون فلسطيني بقليل، ودُمّرت أحياء بأكملها، كما المستشفيات والمدارس. ومع ذلك، مازالت المقاومة صامدة. وفشل الجيش الإسرائيلي - الذي كان يُصوّر يوماً كقوة لا تُقهر - في إخضاع حتى 360 كيلومتراً مربعاً من الأراضي المحاصرة أو إنقاذ جنوده الأسرى.

يأتي هذا الإذلال رغم الدعم غير المسبوق من الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين ضختا معلومات استخباراتية وأسلحة متطورة، بل وحتى مستشارين عسكريين مُلحقين بالوحدات الإسرائيلية.

وما تم الترويج له على أنه حملة سريعة وحاسمة تحول بدلاً من ذلك حرب استنزاف طاحنة كشفت إجرام وحدود القوة الإسرائيلية.

في الخارج، ينظر الحلفاء بقلق إلى إسرائيل وهي تُبدد هيبتها العسكرية ورأس مالها المعنوي. في الداخل، يستيقظ الإسرائيليون على حقيقة لم يتخيلوها قط فجيشهم، الذي مُنح رخصة التصرف من دون قيود، قد فشل مع ذلك.

قد يحمي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذا الفشل على المدى القصير من خلال صرف الانتباه عن مسؤوليته الشخصية، لكنه يحمل عواقب وخيمة على سمعة الآلة العسكرية.

لعقود من الزمن، استندت هالة التفوق الإسرائيلية على الحملات الجوية السريعة والانتصارات غير المتوازنة. ومع ذلك، عندما أُجبر على خوض معارك برية مطولة ضد مقاومة مصممة، فإن النمط مختلف تماماً: توقف الجيش في لبنان في عامي 2006 و2024، واليوم يكافح من أجل التقدم بضعة كيلومترات فقط داخل غزة.

والأسوأ من ذلك، أنه فشل في منع اليمن وايران من ضرب عمق الأراضي الإسرائيلية بالصواريخ والطائرات من دون طيار، ما عرض المدن الإسرائيلية لنطاق من الدمار لم تشهده الدولة العبرية في تاريخها.

قد يتفاخر نتنياهو بإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال حروبه التي لا تنتهي، لكن الواقع يروي قصة مختلفة، فحواها عجز إسرائيل عن الانتصار المطلق حتى عندما تُقاتل الولايات المتحدة فعلياً إلى جانبها.

أمنية ترامب... فخ نتنياهو

يعلم نتنياهو أن الحرب غير قابلة للربح، فهي تستنزف اقتصاد إسرائيل، وتمزق المجتمع، وتشوه مكانتها العالمية رغم التستر الأميركي.

وأوضحت إدارة دونالد ترامب أنها ترغب - رغم أنها تمتنع عن فرض - إنهاء الحرب. تريد واشنطن وقف نار ليحقق الاستقرار في المنطقة قبل دورة الانتخابات الأميركية. قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2026، من المرجح أن تتأرجح السياسة الخارجية لترامب بين التطرف الخطابي (الدعم الكامل لإسرائيل، والعداء لإيران) وضبط النفس العملي (تجنب حرب لبنان، وتجنب التدخل المباشر). سيستمر دمار غزة مع الغطاء الأميركي، لكن ترامب قد يضغط على نتنياهو من أجل فترات توقف تكتيكية للحد من ردات الفعل السياسية في الداخل. وسيتم إبقاء لبنان وإيران على حافة الهاوية، وليس أبعد منها - لأن ترامب يعلم أن الانفجار الإقليمي قبل نوفمبر 2026 قد يكلفه الكونغرس.

مع ذلك، يُصرّ شركاء نتنياهو في الائتلاف اليميني المتطرف على وجوب طرد الفلسطينيين من غزة والقطاع المُحتل بالكامل او تنهار حكومته. وأثبتت شبكات الأنفاق أنها أكثر صموداً مما توقعته تقييمات الاستخبارات وانتهت عمليات إنقاذ الجنود الإسرائيليين الأسرى بخسائر بدلاً من النجاح.

هذا ليس بسبب نقص الدعم. فقد قدمت المخابرات الأميركية والبريطانية مساعدة يومية في مجال المراقبة والاستهداف؛ وساعد المستشارون الأميركيون في توجيه العمليات؛ ووصلت الأسلحة الغربية بكثرة.

إرث زامير المستحيل

في مواجهة انتقادات متزايدة، عيّن نتنياهو إيال زامير رئيساً للأركان، خلفاً لهيرتسي هاليفي. كان زامير أكّد لرئيس الوزراء قدرته على تسليم غزة «على طبق من ذهب».

في حفل التسليم، ذكّره نتنياهو بصراحة: «لقد أردتَ هذا المنصب، وأنت واثقٌ من قدرتك على تحقيق الأهداف».

لكن زامير ورث جيشاً منهكاً وأهدافاً ثبت استحالة تحقيقها. فعملية «عربات جدعون»، التي شُنّت كدفعة حاسمة، استمرت من دون تحرير أسير واحد. يُقرّ الضباط سراً بأن إسرائيل ستضطر عاجلاً أم آجلاً إلى التفاوض مع «حماس»، وهي النتيجة ذاتها التي أقسم نتنياهو على تجنبها.

بالنسبة إلى زامير، فإن التحدي لا يكمن في كسب الحرب بقدر ما يكمن في الحفاظ على معنويات الجيش. إذا سكتت المدافع، فسيُحلل المحللون العسكريون حول العالم كيف فشل جيشٌ مُنح حريةً مطلقةً في العمل، دون قيودٍ من القانون الدولي، في هزيمة حركةٍ فدائيةٍ في جيبٍ مُحاصر. يعكس العبءُ المُلقى على عاتق زامير مُشكلةً أعمق تتمثل في تآكلُ هالةِ الحصانةِ التي غرستها إسرائيل منذ عام 1967.

انهيارُ أسطورة

بنت الانتصاراتُ السريعةُ عام 1967 والنفوذُ في 1973 أسطورةَ جيشٍ لا يُقهر. حتى عندما فُوجِئَت، واصلت إسرائيلُ التفاوضَ من موقعِ قوة. بدأت هذه الأسطورةُ في الانهيارِ عام 2006، عندما قاومَ «حزب الله» الهجومَ الإسرائيليَّ وأجبرَ على الوصولِ إلى طريقٍ مسدود. تُمثلُ غزة 2023 - 2025 انهياراً حاسماً. هنا، تمتع الجيشُ بدعمٍ غير محدود، دون قيود، ومع ذلك فشل.

كان الجيشُ يحظى في يومٍ من الأيام باحترامٍ لا يُضاهى، مُشكِّلاً الإستراتيجيةَ والسياسةَ الوطنية. اليوم، يجد كبار القادة أنفسهم مُهانين من وزراء الحكومة، ويُنبذون كعقباتٍ لا كحُرّاسٍ للأمن. لقد انقلبت المقولة القديمة القائلة بأن إسرائيل «جيشٌ ذو حكومة»؛ فالجيش الآن كبش فداءٍ لطبقةٍ سياسيةٍ مُتهورة. لذا فإن ما تؤكده غزة هو أن أسطورة القوة التي لا تُقهر لم تعد قائمة، لا في الممارسة ولا في التصور.

«وهم إسرائيل الكبرى»

يعتمد بقاء بنيامين نتنياهو على إبقاء شركائه من اليمين المتطرف راضين بالغنائم السياسية. بالنسبة لإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، فهو يمنحه ترخيصاً لتأجيج التوترات في المسجد الأقصى وتشديد الخناق على السجناء الفلسطينيين.

أما وزير المال بتسلئيل سموتريتش، فيعرض عليه جائزة توسيع المستوطنات.

سموتريتش لا يترك مجالاً للغموض: فبالنسبة له، نمو المستوطنات ليس مسألة ديموغرافية، بل إستراتيجية.

قبل أيام، تعهد «دفن فكرة الدولة الفلسطينية» من خلال المضي قدماً بمشروع E1 قرب القدس، والذي لطالما اعتُبر ضربة قاضية للتواصل الجغرافي الفلسطيني. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، واعداً بأنه بحلول سبتمبر المقبل، عندما يُتوقع أن تعترف دول أوروبية عدة بفلسطين خلال اجتماعات الجمعة العامة للأمم المتحدة، ستضمن إسرائيل «عدم وجود شيء للاعتراف به».

كانت رسالته جلية «هذا الواقع يدفن فكرة الدولة الفلسطينية نهائياً، لمجرد أنه لا يوجد شيء للاعتراف به، ولا أحد للاعتراف به».

ونظراً لعجزه عن تحقيق نصر عسكري في غزة، يلجأ نتنياهو إلى الأرض. تصبح المستوطنات عملةً يحافظ من خلالها على ولائه للائتلاف، حتى في الوقت الذي ينزف فيه الجيش في ساحة المعركة. وراء هذه السياسات تكمن أسطورة أكبر يلجأ إليها رئيس الوزراء لإخفاء فشله... حلم «إسرائيل الكبرى».

الفكرة ليست جديدة. تتجذر «إسرائيل الكبرى» في الصهيونية التعديلية، وتُقدّسها القومية الدينية، وتتخيل سيادة دائمة على كامل فلسطين التاريخية، بل وأكثر من ذلك بكثير في بعض الروايات.

لم تُعلن الحكومات الإسرائيلية الحديثة صراحةً عن مثل هذه الحدود القصوى، بل كان التركيز العملي دائماً على الضفة الغربية والقدس، وأحياناً على جنوب لبنان وسوريا.

ومع ذلك، فإن رمزية وعد «من النيل إلى الفرات» مازالت تُحرك اليمين المتطرف. بالنسبة إلى شخصيات مثل سموتريتش وبن غفير، لا يُصوَّر التوسع الاستيطاني كسياسة فحسب، بل كمهمة لا تترك مجالاً للسيادة الفلسطينية... هذه الثنائية مهمة.

تظل الرؤية المتطرفة أسطورة أيديولوجية، تُستخدم لتقديس الطموحات وحشد قاعدة موالية. لكن الواقع الافتراضي يكمن في الضم المتواصل للأراضي الفلسطينية، وفرض «حقائق على الأرض» لا رجعة فيها، وتأطير هذه الإجراءات كخطوات نحو مصير توراتي.

يستغل نتنياهو هذه الأسطورة لإخفاء إخفاقات جيشه، لكن هذا الوهم يصطدم بحقيقة أشد قسوة: إسرائيل ليست في وضع يسمح لها بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.

ومع ذلك، بالنسبة إليه، فإن الحفاظ على حلم «إسرائيل الكبرى» لا يتعلق بتحقيق الحدود التوراتية بقدر ما يتعلق بحماية نفسه من المساءلة وتأجيل الحساب السياسي الذي ينتظره.

التصدعات الدولية

هزت الحرب أيضاً مكانة إسرائيل في الخارج. قدمت الحكومات الغربية الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والغطاء الدبلوماسي، ومع ذلك يتزايد الغضب الشعبي.

تتحرك الدول الأوروبية الآن نحو الاعتراف بفلسطين، ليس بدافع التعاطف المفاجئ، بل لأن أفعال إسرائيل جعلت الوضع الراهن غير قابل للدفاع عنه.

إن تباهي سموتريتش بأنه «لن يتبقى شيء للاعتراف به»، يُبرز سخرية مساعي إسرائيل الاستيطانية.

لقد فشل جيش إسرائيل، الذي طالما وُصف بأنه لا يُقهر، وقيادته السياسية تُطيل أمد الحرب لا من أجل الفوز، بل من أجل البقاء. مجتمعها، الذي كان يوماً ما مُتحداً حول الكبرياء العسكري، يشاهد الآن قادته يُهانون على يد سياسيين متطرفين.

حلفاؤها الدوليون يشعرون بالقلق، بينما تستمد حركات المقاومة قوتها من عجزها عن فرض إرادتها.

بوضعه أهدافاً بعيدة المنال والتضحية بصدقية الجيش للحفاظ على حكمه، لم يُضعف نتنياهو إسرائيل سياسياً فحسب، بل أشرف على تفكيك الأسطورة العسكرية التي اعتمدت عليها الدولة يوماً ما.

ستُدرّس الأكاديميات العسكرية إخفاقاتها، وستُعيد الحكومات تقييم تحالفاتها، وستستمد حركات المقاومة الثقة من تحديها. بالنسبة إلى إسرائيل، لا تُمثل حرب غزة مجرد جمود عسكري، بل انهيار للرواية ذاتها التي بنت عليها الدولة شرعيتها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي