مدينة غزة: من الاحتلال إلى السيطرة... تلاعب نتنياهو القانوني لارتكاب المزيد من الجرائم

صورة من الجو تُظهر حجم الدمار الواسع في غزة    (رويترز)
صورة من الجو تُظهر حجم الدمار الواسع في غزة (رويترز)
تصغير
تكبير

أعلنت إسرائيل عن خطط لهجوم بري واسع النطاق للسيطرة على مدينة غزة، الواقعة إستراتيجياً بين ممري مفلاسيم ونتساريم، والتي كان يقطنها نحو 750 ألف فلسطيني.

ويُنظر إلى هذه الخطوة على نطاق واسع على أنها السبب الرئيسي لانسحاب إسرائيل المفاجئ من محادثات وقف النار الأخيرة مع «حماس» في قطر.

ووفقاً لوسائل إعلام إسرائيلية، فقد أقرّ مجلس الوزراء الحربي بالفعل إستراتيجية أوسع لاحتلال قطاع غزة بأكمله خلال سنتين، مع تحديد السيطرة على مدينة غزة كمرحلة تالية، بعد السيطرة على القطاعين الشمالي والجنوبي خلال 22 شهراً من القتال المتواصل.

لأشهر، تعرضت مدينة غزة لهجمات متواصلة من الجبهة الشرقية. ووفقاً لتقديرات الجيش الإسرائيلي، فإن السيطرة الكاملة على المدينة - وهي عملية يُصرّ المسؤولون على تسميتها «سيطرة» لا «احتلال» - ستتطلب ثلاثة أشهر من القتال والتهجير القسري لسكانها المتبقين. ومن غير المرجح أن تضمن إطلاق سراح السجناء الإسرائيليين المحتجزين في المنطقة؛ بل إنها تُخاطر بإعدامهم، كما حذّرت «حماس» مراراً وتكراراً.

تشير تقارير غير مؤكدة إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد يُعيد النظر في الخطة في ظل تزايد الضغوط الدولية والتهديدات بتعليق التعاون مع إسرائيل.

حتى ألمانيا، الموردة لنحو 30 في المئة من المكونات العسكرية لإسرائيل، أعلنت عن تعليق الدعم في حال تأكيد الهجوم. ومع ذلك، بالنسبة إلى نتنياهو، فإن مدينة غزة ليست سوى الخطوة الأولى، والهدف هو الاستعداد للسيطرة على قطاع غزة بأكمله في مرحلة لاحقة للحفاظ على إئتلاف حكومته.

هذه العملية العسكرية واللغة المستخدمة لتبريرها جزء من إستراتيجية إسرائيل الأوسع لإعادة تشكيل الوضع القانوني لغزة مع الاحتفاظ بالسلطة المطلقة على أرضها وبحرها وجوها. فمع دخول الحرب على غزة مرحلة جديدة في أغسطس 2025، أسقط المسؤولون الإسرائيليون مصطلح «الاحتلال» تماماً.

وبدلاً من ذلك، يتحدثون عن «السيطرة» - وهو تحول دقيق ظاهرياً وينطوي على عواقب قانونية وسياسية وأخلاقية بعيدة المدى. إنه ليس مجرد تعديل لغوي، بل مناورة مدروسة لتجنب المساءلة مع تشديد قبضة إسرائيل على أكثر مناطق غزة إستراتيجية.

بموجب القانون الدولي، يجب على قوة الاحتلال توفير الخدمات وحماية المدنيين والامتناع عن العقاب الجماعي. لا تحمل «السيطرة» أي التزامات من هذا القبيل. إنها درعٌ لـ«واقع الهيمنة» على الحدود والمجال الجوي والحياة اليومية دون تحمل المسؤوليات التي تصاحب الاحتلال الرسمي. والنتيجة أبعد ما تكون عن التجريد: فهي تُشرّع التدمير، وتُمكّن من التهجير، وتترك غزة عالقةً في فراغ قانوني - مقصوفة ومُجَوَّعة ومُراقَبة، ومع ذلك ومنزوعة حتى من الحماية المُتاحة لشعبٍ مُحتل.

سراب قانوني تاريخي

هذه ليست أول مرة التي تستغل فيها إسرائيل الغموض القانوني لتشكيل النتائج السياسية. ففي عام 2005، قرر رئيس الوزراء آنذاك، أرييل شارون، انسحاباً أحادي الجانب من غزة. غادر الجنود والمستوطنون الإسرائيليون بعد أن أصبحت حماية عدد قليل من المستوطنين داخل جيب فلسطيني معادٍ للغاية أمراً غير قابل للاستمرار عسكرياً وسياسياً. لكن إسرائيل احتفظت بالسيطرة على المجال الجوي للقطاع، والوصول البحري، وسجل السكان، والكهرباء، والمياه، وتدفق البضائع. لم تكن خطوة شارون من أجل السلام، بل كانت انسحاباً مدروساً لتخفيف العبء عن الجيش وإظهار للعالم أن الدولة الفلسطينية ستنزلق إلى الفوضى.

بعد عقدين من الزمن، تُؤتي خدعة شارون ثمارها المروعة. يستشهد نتنياهو بفك الارتباط عام 2005 ليُجادل بأن غزة لم تعد محتلة، حتى في الوقت الذي تُحلق فيه الطائرات الإسرائيلية من دون طيار في سمائها، ويدخل الجنود شوارعها، وتدمر الصواريخ بنيتها التحتية. ويحظى نهجه الآن بتأييد علني من الإدارة الأميركية الحالية. فمنذ عودته إلى منصبه في يناير 2025، لم يُوفر الرئيس دونالد ترامب لإسرائيل غطاءً سياسياً كاملاً فحسب، بل شكك علناً ايضاً في منطق الانسحاب من غزة. وأعلن: «لإسرائيل أن تقرر ما هو الأفضل»، مانحاً نتنياهو شيكاً مفتوحاً للسعي وراء أي هدف مهما كان مدمراً أو مُشكوكاً فيه قانونياً. ويُردد خطابه صدى موقف راسخ: أن الانسحاب الإسرائيلي كان خطأً تاريخياً.

مدينة غزة... القلب النابض للقطاع

مدينة غزة هي أكبر مركز حضري وأكثرها كثافة سكانية في القطاع، وتمتد على مساحة تقارب 55 كيلومتراً مربعاً - أي نحو 15 في المئة من إجمالي مساحة القطاع، التي تبلغ نحو 365 كيلومتراً مربعاً.

على الرغم من صغر حجمها، إلا أن المدينة تضم ما يقارب ثلث إجمالي سكان غزة. وهي مقسمة إلى أكثر من 12 حياً، لكل منها طابعها وتاريخها الخاص، ومستويات متفاوتة من الدمار وتشكل هذه الأحياء مجتمعة قلب الحياة المدنية والثقافية والاقتصادية في غزة، وقد تحملت وطأة أشد عمليات القصف الإسرائيلي. وباعتبارها العاصمة الإدارية والتجارية والثقافية للقطاع، لطالما كانت المدينة نقطة محورية للغارات الجوية الإسرائيلية والتوغلات البرية، نظراً لثقلها الرمزي والإستراتيجي. كثافة سكانها وبنيتها التحتية المتراصة تجعلها عرضة للخطر في شكل خاص خلال الهجمات واسعة النطاق، ما يحول أي قصف إلى كارثة إنسانية. لذا فإن فهم حجم وتركيبة مدينة غزة أمر بالغ الأهمية لاستيعاب فداحة الدمار والأثر الديموغرافي للعمليات العسكرية المركزة هناك.

1967 إلى 2025: من الاحتلال الكامل إلى السيطرة المنقوصة

بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عندما احتلت إسرائيل غزة - التي كانت آنذاك تحت الإدارة المصرية - تم الاعتراف بالمنطقة بموجب القانون الدولي على أنها محتلة. وتم تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة. حكمت إسرائيل المنطقة من خلال المستوطنات والحكم العسكري لما يقارب من أربعة عقود.

ورغم انسحابها عام 2005، فإن معظم الهيئات الدولية - وكالات الأمم المتحدة والصليب الأحمر ومنظمة «هيومان رايتس ووتش» - تؤكد أن غزة مازالت محتلة، فهي تمارس ما يسميه القانون الدولي «السيطرة الفعلية»، وهو المعيار الأساسي لتعريف الاحتلال، تحدد من يدخل ومن يخرج، ونوعية البضائع التي تتدفق من وإلى، وكمية الكهرباء التي تتدفق إلى المستشفيات والمنازل. ومع ذلك، تُفضّل حسابات نتنياهو السياسية الغموض.

فإنكار الاحتلال يُمكّن إسرائيل من التهرّب من تهم جرائم الحرب ويتجاهل واجبات إعادة الإعمار، ومواصلة العقاب الجماعي تحت ستار مكافحة الإرهاب. الاحتلال يعني المسؤولية، أما «السيطرة» فهي مجانية ودون التزام.

لماذا يرفض نتنياهو مصطلح «الاحتلال»؟

إنّ تجنّب نتنياهو لهذا المصطلح ليس مجرد خطاب، بل هو آلية دفاعية مصممة لدرء التحديات القانونية في المحاكم الدولية واتهامات بارتكاب جرائم حرب. إذا لم تكن غزة محتلة، فلن يكون على إسرائيل أي التزام مُلزم بإعادة إعمارها، أو حماية المدنيين، أو الالتزام بمبدأ التناسب في الحرب.

كان فك الارتباط مع غزة بمثابة تحذير: الانسحاب لم يحقق السلام، ولم يُعفِ إسرائيل من اللوم. ونتيجةً لذلك، تُفضّل القيادة الحالية الهيمنة غير الرسمية على المسؤولية الرسمية.

علاوة على ذلك، يُعتقد أن مدينة غزة تحتجز عدداً كبيراً من الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى «حماس». وفي تحذيرٍ صارخ للقيادة السياسية، أفادت التقارير أن رئيس الأركان الإسرائيلية، يائيل زامير، حذّر من أن احتلالاً شاملاً للمدينة قد يُمثّل حكماً بالإعدام على هؤلاء الأسرى، ويؤدي إلى خسائر فادحة في صفوف أكثر وحدات القتال الإسرائيلية تقدّماً.

ويبدو أن الهدف مزدوج: أولاً، الإشارة إلى المخاطر العملياتية التي تواجه صانعي السياسات الذين يسعون إلى السيطرة البرية على أكثر مراكز غزة تحصيناً؛ وثانياً، التنصل استباقياً من اللوم السياسي في حال وقوع أسوأ السيناريوهات.

وقد حذّرت حماس مراراً وتكراراً من أنه إذا اقتربت القوات الإسرائيلية من مواقع الأسرى، فإنها ستعدمهم. ويبدو أن موقف زامير مُصمّم لضمان ألا يكون كبش فداء لرئيس الوزراء نتنياهو، الذي قد يؤدي إصراره على السيطرة على مدينة غزة - بغض النظر عن العواقب - إلى نتائج كارثية عسكرياً وسياسياً.

الخلاصة: غزة في مأزق قانوني

لاتزال غزة عالقة في منطقة غامضة من القانون الدولي - أرض محاصرة ومُدمرة ومُسيطر عليها، ومع ذلك محرومة من الحماية القانونية التي يوفرها الاحتلال المُعترف به. لم تُفلت إسرائيل من قبضة غزة؛ بل غيّرت لغة قبضتها فحسب.

إن إعادة صياغة الاحتلال على أنه «سيطرة» يسمح لإسرائيل بشن حرب دون تحمل عواقبها. ويُمكّن السياسيين من التصعيد دون محاسبة، ويُطبّع حالة استثنائية دائمة. ما هو على المحك في غزة ليس مجرد مدينة، أو حتى شريط أرض. بل هو فكرة المساءلة القانونية في الحرب ذاتها، وما إذا كان يُمكن استغلال اللغة لإخفاء الجرائم المرتكبة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي