رأى العالم الصور وقرأ التقارير وأصغى إلى صمت الأطفال الضحايا

زيارة ويتكوف تُثير أزمة صدقية: مجاعة غزة مجرد... «خيال»

ويتكوف يزور مركز مساعدات في رفح جنوب غزة
ويتكوف يزور مركز مساعدات في رفح جنوب غزة
تصغير
تكبير

عندما وقف المبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف في غزة، مُنكراً المجاعة - التي وثّقتها وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية غير الحكومية بدقة متناهية - وقال بأنها «مبالغ فيها»، لم يكن ذلك مجرد لفتة سياسية.

بل شكل الأمر لحظة فارقة في تآكل السلطة الأخلاقية الأميركية على الساحة العالمية. لقد وصلت أزمة صدقية الولايات المتحدة، المُستمرة منذ فترة طويلة، إلى نقطة الغليان، ليس فقط في الأمم المتحدة، بل في جميع أنحاء دول الجنوب، حيث تُواجه شرعية واشنطن كمدافع عن الأعراف الدولية تدقيقاً غير مسبوق.

لم يكن حضور ويتكوف رمزياً فحسب، بل كان رسالة مباشرة إلى المجتمع الدولي، خصوصاً إلى أكثر من 140 دولة اعترفت الآن بفلسطين كدولة. ففي وقتٍ كان معظم العالم يلتف حول دعوات المساءلة، ووصول المساعدات الإنسانية، وتطبيق وقف إطلاق النار، ضاعفت واشنطن من إنكارها عبر إثارة الشك حول تجويع أكثر من مليونين ونصف المليون مدني محاصر، وهو تقييمٌ أكّده التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي التابع للأمم المتحدة IPC.

فويتكوف وفّر غطاءً دبلوماسياً لكارثةٍ ومجاعةٍ من صنع الإنسان دبرتها إسرائيل وطبّقها أقرب حلفائها وأنقلبت سلباً عليهما.

واشنطن والغالبية العالمية

لم تقتصر مهمة ويتكوف في غزة على دعم حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فحسب، بل شملت أيضاً إعادة تأكيد الهيمنة الأميركية على الخطاب الشرق أوسطي. كان المعنى الضمني لزيارته جلياً، فهو أراد القول إن الولايات المتحدة وحدها هي التي تُقرر ما هو صحيح وما هو خاطئ، وما يُسمح للعالم بقوله عن غزة.

لم يكن الهدف من ذلك تغيير آراء دول الجنوب العالمي - المتشككة أصلاً - بقدر ما كان تحذيراً للحلفاء الأوروبيين الذين بدأوا ينأون بأنفسهم عن نهج واشنطن. يُقال لدول مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا، التي اعترفت بدولة فلسطين، إن هذه اللفتات ليست مُضللة فحسب، بل هي غير مقبولة. كما أنها مُوجهة إلى أكثر من 15 دولة، بقيادة فرنسا وبريطانيا، أقرب حلفاء الولايات المتحدة وإسرائيل، واللتين أعربتا عن نيتهما الاعتراف بفلسطين كدولة في سبتمبر المقبل.

رسالة ويتكوف هي أن الولايات المتحدة وحدها المخولة بتحديد الواقع الإنساني والسياسي في الشرق الأوسط. هذا الموقف لا يُقوّض التعددية الدبلوماسية فحسب، بل يكشف عن تناقض عميق يتمثل في أن دولة نصبت نفسها نصيرة للديمقراطية تعمل الآن على قمع الإجماع الديموقراطي العالمي.

منظومة الأمم المتحدة تحت الحصار

التداعيات داخل الأمم المتحدة خطيرة. تتبع تصنيفات المجاعة والإنذارات الإنسانية الصادرة عن الأمم المتحدة عملية تحقق دقيقة ومتعددة الوكالات، تشمل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وبرنامج الأغذية العالمي، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية.

هذه ليست ادعاءات تخمينية، بل هي استنتاجات قائمة على الأدلة، تم التوصل إليها من خلال تقييمات ميدانية، وبيانات الاستشعار عن بُعد، ومقاييس وبائية. فعندما ترفض الولايات المتحدة هذه النتائج، فإنها لا تشكك في تقرير فحسب، بل تُسقط الشرعية عن إطار التنسيق الإنساني الدولي بأكمله.

ولطالما مارست الولايات المتحدة، بصفتها أكبر ممول للأمم المتحدة وعضواً دائماً في مجلس الأمن، نفوذاً غير متناسب. ولكن عندما يُستخدم هذا النفوذ ليس لدعم صدقية وكالات الأمم المتحدة، بل لتقويضها، فإن الأمر يدفع النظام نحو أزمة وجودية. إذ كيف يمكن للأمم المتحدة أن تكون حكماً محايداً في الأزمات العالمية إذا تجاهل أحد أعضائها المؤسسين أهم نتائجها عندما يكون ذلك غير ملائم سياسياً؟

هذا التقويض ليس جديداً. فقد استخدمت الولايات المتحدة مراراً حق النقض (الفيتو) ضد قرارات مجلس الأمن الداعية إلى وقف النار، أو الممرات الإنسانية، أو إجراء تحقيقات مستقلة في غزة. لكن إنكار ويتكوف للمجاعة يمثل انحداراً إضافياً - لم يعد مجرد عرقلة للعمل، بل محاولة لإعادة صوغ الرواية بالكامل.

الجنوب العالمي: المشاهدة... الإنصات والتذكر

لم تكن تصريحات ويتكوف مفاجئة بالنسبة إلى الجنوب العالمي، فقد أكدت شكوكاً راسخة بأن القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، تستخدم لغة حقوق الإنسان في شكل انتقائي. وأن القانون الدولي يُسخّر ضد بعض الأنظمة، بينما يُبرر لغيرها. أي أنه عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، لا تُطبّق القواعد.

أثار هذا الواقع موجة جديدة من العزلة الدبلوماسية في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. بالنسبة إلى العديد من الدول، تعكس صور غزة - لأطفال يتضورون جوعاً، ومستشفيات تُقصف، ومخيمات لاجئين محروقة - صدماتهم التاريخية من العنف الاستعماري، والحصار، والمعاناة التي فرضها الغرب. فصدى هذه التصريحات كان عميقاً، والدروس المستفادة ليست مجردة.

والآن، تمزق الخطاب الأميركي. فإصرار الولايات المتحدة على «نظام دولي قائم على القواعد» يبدو أجوفاً عندما ترفض تطبيق هذه القواعد نفسها على أقرب حلفائها. عندما تدعو واشنطن إلى المساءلة في ميانمار أو فنزويلا أو روسيا، يُقابلها في شكل متزايد الرد التالي: وماذا عن غزة؟

يُحدث هذا الشعور بخيبة الأمل تحولات جيوسياسية ملموسة. وتتوسع مجموعة البريكس+، مُقدمةً بذلك ثقلاً موازناً للتحالفات الغربية. وتكتسب حركة عدم الانحياز زخماً متجدداً، لا سيما بين الدول التي تسعى إلى عزل نفسها عن الضغوط الغربية. وقد نجحت الصين وروسيا، رغم دافعهما الذاتي، في استغلال ازدواجية معايير واشنطن، مصوِّرتين نفسيهما كمدافعتين أكثر ثباتاً عن السيادة - وإن بسخرية.

ما أثاره إنكار ويتكوف هو أزمة لا تتعلق بغزة فحسب، بل تتعلق أيضاً بالثقة والنظام والسلطة. لقد سرّع من تفكك عالم أحادي القطب، حيث كانت الولايات المتحدة قادرة في السابق على إملاء شروط الاشتباك في واقع اليوم متعدد الأقطاب، أصبحت الصدقية أهم من الإكراه. إذا لم يكن من الممكن الوثوق بواشنطن في قول الحقيقة في شأن المجاعة، فكيف يمكن الوثوق بها في مسائل القيادة المناخية، أو الاستجابة للجائحة، أو منع الانتشار النووي؟ وإذا اعتُبرت الأمم المتحدة عاجزة عن حماية الفلسطينيين بسبب عرقلة الولايات المتحدة، فما هي الثقة التي ستضعها الشعوب المستضعفة في قدرتها على حمايتهم؟ لم يعد الجنوب العالمي يكتفي بالمراقبة، بل هو يُعيد تقييم نفسه. وفي كثير من الحالات، يُنصرفون عن السياسة.

النفاق الأخلاقي في الداخل والخارج

تمتد العواقب أيضاً إلى السياسة الأميركية الداخلية. بالنسبة إلى الشباب الأميركي - خصوصاً بين المجتمعات العربية والإسلامية واليهودية التقدمية والسود - يُعد إنكار ويتكوف للمجاعة أمراً مُقززاً أخلاقياً. وقد اندلعت احتجاجات في الجامعات. واستقال موظفو الأمم المتحدة اشمئزازاً. وتتضاءل ثقة الجمهور بخطاب واشنطن حول حقوق الإنسان، ليس فقط في الخارج بل داخل حدودها أيضاً.

إن مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، التي كانت تعتمد في السابق على إجماع الحزبين لدعم إسرائيل، تجد نفسها الآن على أرضية هشة. وتتزايد الفجوة بين الموقف الرسمي لواشنطن والغرائز الأخلاقية لشعبها. وتكلفة هذا الانفصال ليست إستراتيجية فحسب، بل أخلاقية أيضاً. وتخاطر الولايات المتحدة بأن تصبح دولة تدافع عن الإبادة الجماعية في الخارج بينما تُلقي محاضرات على الآخرين حول حقوق الإنسان في الداخل.

قد تُذكر زيارة ويتكوف ليس كملاحظة هامشية في حرب غزة، بل كنقطة تحول - اللحظة التي انهارت فيها آخر بقايا القيادة الأخلاقية. فإنكاره المجاعة في وجه أدلة دامغة، وبحماية إسرائيل من التدقيق وإسكات وكالات الأمم المتحدة، لم تفقد الولايات المتحدة صدقيتها فحسب، بل خسرتها.

ولا يمكن تعويض هذه الخسارة بجولة أخرى من الدعاية الدبلوماسية أو التعهدات الإنسانية. لقد رأى العالم الصور. وقرأ التقارير وأصغى إلى صمت الأطفال الذين يموتون في غزة، وإلى الكلمات المتحدية لدبلوماسي أخبرهم أن معاناتهم مجرد خيال.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي