"خدعة" المساعدات في الطريق إلى «نكبة جديدة»
«مدينة رفح الإنسانية»... معسكر اعتقال تمهيداً لترحيل قسري
تبني إسرائيل ما تُسميه «مدينة إنسانية» في رفح، على الحدود الجنوبية لقطاع غزة مع مصر. لكن هذه ليست منطقة إغاثة، بل هي منشأة احتجاز جماعي. فهذا المشروع صُمّم كمأوى موقت للمدنيين النازحين، وهو في الواقع معسكر اعتقال مُعد لاحتجاز 600 ألف فلسطيني تحت المراقبة العسكرية، مُجرّدين من حريتهم، في انتظار الترحيل القسري والنكبة الثانية.
وزير الدفاع يشرائيل كاتس، أكّد علناً النيات وراء هذا الجهد. فبدلاً من توفير الأمان، تُعزّز ما يُسمى بالمنطقة الإنسانية، السيطرة وتُمهّد الطريق للترحيل الجماعي. المنطقة المعنية - رفح - نفسها مُدمّرة وقد سُوّي ما يقارب 28 ألف مبنى بالأرض جراء الغارات الإسرائيلية وعمل الجرافات المتواصل.
ولا تُوفّر هذه الأنقاض أي مأوى، ولا بنية تحتية، ولا مستقبل. ومع ذلك، تُخطّط إسرائيل لإجبار أكثر من نصف مليون فلسطيني على التجمع هنا. تم الإبقاء على عشرات المدارس والمراكز الطبية عمداً - ليس رحمةً بالقادمين الجدد، بل كبنية تحتية لوجستية للسكان الوافدين.
وتهدف هذه المرافق إلى خدمة سكان مُحاصرين قسراً في مساحة ضيقة، قبل أن يُدفعوا تدريجياً نحو أي دولة أخرى مستعدة لاستضافة نكبة ثانية (الأولى عام 1948). والآن، بعد 77 عاماً، تُدبّر إسرائيل، بموافقة واضحة من الولايات المتحدة، نكبة أخرى للفلسطينيين.
وتعتزم الحكومة الإسرائيلية استخدام موقع رفح ليس لحماية المدنيين، بل لعزلهم. وسيخضع الذين يدخلون المنطقة للتدقيق من قِبل المخابرات الإسرائيلية باستخدام ملفات مُعدّة مسبقاً. ووفقاً لصحيفة «إسرائيل اليوم»، سيُصنّف أي شخص يبقى خارج حدود المخيم تلقائياً على أنه «حماس» ويُستهدف بالتصفية. هذا ليس عملاً إنسانياً - إنه سيطرة على السكان بالقوة، مع عواقب وخيمة لعدم الامتثال.
لن تأتي هذه النكبة الجديدة في موجة واحدة، بل بوتيرة بطيئة ونزوح قسري، ويأس، وصمت. وتهدف الخطة إلى جعل الحياة لا تُطاق لدرجة أن الفلسطينيين لن يكون لديهم خيار سوى مغادرة غزة نهائياً.
وتعتزم إسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة على ما يناهز 40 في المئة من أراضي غزة، بما في ذلك منطقة عازلة عسكرية تمتد بعمق يراوح بين كيلومتر واحد وثلاثة كيلومترات على طول محيطها.
هذه الخطوة تُقسّم غزة فعلياً إلى أجزاء وتجعل التعافي طويل الأمد مستحيلاً.
ومازالت مناطق إستراتيجية رئيسية تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة. وتواصل القوات احتلال معبر موراج، الذي يفصل خان يونس عن رفح، وممر نتساريم - وهو طريق مركزي يشق شمال غزة عن جنوبها.
هذه المواقع ليست مجرد موطئ قدم عسكري، بل هي أوراق مساومة تستخدمها حكومة بنيامين نتنياهو لتشكيل ترتيبات ما بعد الحرب وانتزاع تنازلات في مجالات الحكم والأمن والسيطرة.
وقد بلغت الكارثة الإنسانية في غزة نقطة الانهيار، إذ يعيش الآن ما يقارب من 800 ألف فلسطيني، في خيم هشة ومكتظة ومعرضة للعوامل الجوية.
هذه الملاجئ الموقتة المّتراصة على طول الساحل لا توفر أي حماية ضد الحرارة الشديدة أو القصف المستمر. ولا توجد كهرباء، وانهار نظام الصرف الصحي، والطرق مليئة بالحفر وغير سالكة والمياه النظيفة شبه معدومة والرعاية الطبية شبه غائبة.
ويواجه نحو 69 في المئة من سكان غزة البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة الجوع الآن، حيث يعيش ما يناهز من واحد من كل ثلاثة على عدم تناول أي وجبة على الإطلاق.
وقد حذرت الأمم المتحدة من أن المجاعة لم تعد تلوح في الأفق بل إنها موجودة في كل مكان في غزة. أما السكان النازحون، فهم في حركة دائمة، مجبرون على الانتقال مراراً وتكراراً بأوامر إسرائيلية.
وقد انتقلت العديد من العائلات خمس مرات أو أكثر في أقل من عامين، هرباً من القنابل والرصاص والجرافات. مع كل انتقال، يفقدون القليل الذي تبقى لديهم. لا استقرار، ولا نهاية تلوح في الأفق، ولا مكان يُسمّى وطناً.
في هذا السياق، يسعى المفاوضون الفلسطينيون إلى وقف إطلاق نار لمدة 60 يوماً لإيقاف القتال لفترة كافية لإغاثة شعبهم، والسماح بدخول المساعدات، والبدء في علاج الجرحى.
لكن أهداف إسرائيل من وقف النار مختلفة تماماً. فهي تطلب الستين يوماً لتأمين إطلاق سراح 10 من أصل 20 من جنود إسرائيليين تحتجزهم «حماس» منذ 7 أكتوبر 2023.
بعبارة أخرى: تريد وقفاً موقتاً لإعادة التمركز والعودة إلى الحرب، بينما يطلب الفلسطينيون وقتاً لالتقاط الأنفاس وإنهاء الحرب.
على الرغم من هذه الاختلافات، أصبحت نافذة وقف إطلاق النار محوراً للضغط الدبلوماسي. فالولايات المتحدة، ورغم حثها على إنهاء الحرب، لا تُبدي أي معارضة لإستراتيجية إسرائيل الأوسع، وتالياً فقد وفرت غطاءً لكل مرحلة من مراحل الهجوم - من القصف إلى التهجير والتجويع، وصمتها إزاء سياسات النقل القسري يُعادل التواطؤ.
إذ يتحدث المسؤولون بلغة السلام، لكن أفعالهم تدعم حملة عسكرية وتمولها للهدف النهائي وهو تغيير ديموغرافي دائم.
جيبٌ مُصغّر منزوع السلاح
رؤية إسرائيل لغزة واضحة: جيبٌ مُصغّر منزوع السلاح، بلا استقلال سياسي ولا حق عودة.
من خلال السيطرة على المناطق الحدودية وتقطيع أوصال القطاع، فإسرائيل تأمل في ضمان عدم قدرة غزة على تنظيم نفسها مرة أخرى ككيان سياسي أو وطني متماسك.
ما يُسمى بـ«المدينة الإنسانية» في رفح، هو رأس حربة هذا الهدف. إنها ليست حلاً، بل أداة ضغط لكسر إرادة الفلسطينيين، وحشر المدنيين في نقطة اختناق، وإعطائهم خياراً واحداً هو المغادرة وفق منطق وحشي وإستراتيجي عنوانه احتويهم حتى يختاروا المنفى على البؤس.
لقد فشلت المؤسسات الدولية في مواكبة اللحظة... الأمم المتحدة تُصدر تحذيرات، والاتحاد الأوروبي يُدلي بتصريحات، ولكن آلية التهجير مستمرة من دون انقطاع. ومازالت معظم الحكومات الغربية مُركّزة على أمن إسرائيل، متجاهلةً الوجود الفلسطيني في غياب كامل للعدالة.
إدارةٌ دمية
في ظل الخطط الحالية صارت غزة منطقة مُمزّقة تُدار عن بُعد وتُراقب داخلياً. سيعيش الناس خلف أسوار، تحت طائرات مُسيّرة، بلا اقتصاد حقيقي ولا آفاق. وقد تُعيّن إدارةٌ دمية، لكنها ستكون للإدارة، لا للتمكين.
ويواجه العالم خياراً، إما مواجهة هذه اللحظة بوضوح، وإما أن يُذكر بتجاهله. فرفح ليست جهداً إنسانياً، بل هي منصة لنكبة ثانية. مصطلح «معسكر اعتقال» ليس استخفافاً، بل يعكس ما يحدث بالفعل كحبس جماعي، وحرمان، وتهجير مُدبَّر.
لن يتذكر المستقبل الموتى فحسب، بل الأحياء أيضاً - الأطفال الذين يكبرون في الخيم، والعائلات التي تُدفع من مدينة مُقْصَفة إلى أخرى. ستُشكِّل هذه القصص الجيل المقبل من الهوية الفلسطينية، التي لا تُصاغ بالهزيمة، بل بالصمود.
ما يُبنى في رفح ليس نهاية حرب. إنه استمرار لمشروع بدأ عام 1948 ولم يتوقف أبداً. وما لم يتحرك العالم بحزم، فسيستمر - سياج واحد، وجرافة واحدة، وصمت واحد في كل مرة.