بعد 4 عقود من ضغوط بلا هوادة... إيران في «حرب التحدّي»
على مدى أكثر من أربعة عقود، خضعت إيران لضغوط لا هوادة فيها، اقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً. فمنذ الثورة الإسلامية عام 1979، عانت من حصار العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وعزلة دولية، ومحاولات متواصلة لزعزعة استقرار نظامها.
وُصفت بـ «المنبوذة»، وتعرض اقتصادها للضغط، وتحمّل شعبها وطأة حملة تهدف إلى احتواء الدولة أو إضعافها أو انهيارها أو استبدالها.
ومع ذلك، في المواجهة الأخيرة، صمدت إيران، ليس في مواجهة خصم هامشي، بل في مواجهة اثنتين من أعتى القوى العسكرية في العالم، أي الولايات المتحدة وإسرائيل.
تُمثل هذه اللحظة تحولاً مهماً... نوع الدمار الذي شهده جنوب لبنان وقطاع غزة منذ فترة طويلة - منازل مُسوّاة بالأرض، وبنى تحتية محروقة، ونزوح مدني - وصل الآن إلى الأراضي الإسرائيلية. مدنٌ مثل تل أبيب وحيفا، التي كانت تُعتبر سابقاً منيعةً، تعرّضت للقصف.
وأعلنت إسرائيل أن أكثر من 11 ألف منزل دمر أو تضرر بشدة جراء الرد الإيراني، ما تسبب بأضرار تقدر قيمتها بنحو 4 مليارات شيكل (1.175 مليار دولار). أنظمة الدفاع الشهيرة، التي لطالما وُصفت بأنها شبه عصية، تعرّضت لقصفٍ مُنسّقٍ من الصواريخ والطائرات المُسيّرة الإيرانية، ولم يكن هذا عرضاً رمزياً للمقاومة، بل كان استعراضاً للقدرة والنية.
الأهم من ذلك، أن إيران لم تكن البادئة في هذه الحرب، ولم تطلب وقف النار. طلبت إسرائيل من الرئيس دونالد ترامب، السعي لوقف النار والوساطة مع إيران، التي قبلت العرض الشفوي.
لا يُمكن التقليل من أهمية هذه النقطة. فبينما أعلنت الولايات المتحدة وقف النار ووافقت عليه إسرائيل عبر مجلس وزرائها، لم تُقدّم إيران أي نداء رسمي لوقف القتال. بل ردّت عند تعرّضها للضرب، وصعّدت عند استفزازها، وصمدت بعد اشتباك عسكري مباشر مع إسرائيل المُسلّحة نووياً والقوة العظمى العالمية التي تدعمها.
طهران لا تعتبر أن حربها مع إسرائيل قد انتهت، وأثبتت أن ترسانتها الصاروخية ليست سليمة فحسب، بل مهيأة لصراع مستمر، وتالياً فإن إسرائيل فشلت في تحقيق أحد أهدافها الأساسية المتمثل بإضعاف برنامج الصواريخ وتفكيكه.
وتشير تقارير من مسؤولين إيرانيين ومصادر غربية مستقلة إلى أن البنى التحتية النووية مازالت فعّالة إلى حد كبير. فرغم الضربات الموجهة لمنشآت مثل فوردو وناتانز وأصفهان، لم يحدث الدمار المتوقع. وأعلنت السلطات أن آلاف الكيلوغرامات من اليورانيوم المخصب، قد نُقلت بأمان قبل الهجمات.
وهذا يعني أن الهدف الرئيسي الثاني لإسرائيل - شل القدرة النووية، فشل أيضاً.
يبدو أن المكسب الفوري الوحيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو ارتياح سياسي موقت في الداخل. فمع تصاعد الغضب الشعبي إزاء فشله في تأمين إطلاق الرهائن في غزة، وتحت ضغط الاحتجاجات الداخلية اليومية، منحته الحرب على إيران «استراحة موقتة».
لكن هذا لم يدم طويلاً. ففي اليوم الأول الذي تلا وقف إطلاق النار غير الملزم مع إيران، وجد نتنياهو نفسه مجدداً يواجه أزمة الرهائن العالقة - وهي أزمة مازالت متفجرة سياسياً كما كانت دائماً.
هذا الأمر مهم ليس رمزياً فحسب، بل إستراتيجياً أيضاً. لقد أعادت إيران تعريف ردعها. فقد تجاوزت الآن «خطاً أحمر»: ضربت إسرائيل مباشرة، في موجات متواصلة، وأشارت إلى أنها تستطيع الاستمرار في ذلك.
علاوة على ذلك، وللمرة الأولى في تاريخها، قصفت إيران قواعد عسكرية أميركية ليس مرة واحدة، بل مرتين.
عام 2020، ردت على اغتيال الجنرال قاسم سليماني بإطلاق صواريخ بالستية على القاعدة الأميركية في عين الأسد بالعراق. وبعد خمسة أعوام، في الـ 2025، استهدفت قاعدة أميركية أخرى، رداً على الغارات الجوية على مواقعها النووية. وقع كلا الهجومين بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وشهدا مواجهات عسكرية مباشرة غير مسبوقة بين طهران وواشنطن.
لم تجرؤ أي دولة منذ هجوم اليابان على بيرل هاربور في ديسمبر 1941على ضرب القواعد الأميركية، كما فعلت إيران المدركة تماماً أنها تواجه قوة عظمى عالمية، وجهاً لوجه.
من هذا المنطلق، فإن تحدي طهران ليس عسكرياً أو سياسياً فحسب. إنه أمر وجودي. إنه يُرسل إشارةً بأنها قادرة على تحمّل العزلة والعقوبات والضغط المستمر، وأن تُواصل الردّ، حتى ضدّ من طال انتظارهم. قد يُوقف وقف النار وإطلاق الصواريخ موقتاً، لكنّ تداعيات ما حدث ستبقى لفترة أطول بكثير. لقد غيّرت إيران... قواعد الاشتباك.