القنابل لا تدمر المباني فحسب بل تمحو الذاكرة والتاريخ والهوية

إكمال الحرب على غزة... وراء محادثات فاشلة لوقف النار

فلسطينيون يتفقدون مقبرة استهدفتها غارات إسرائيلية في ديرالبلح (رويترز)
فلسطينيون يتفقدون مقبرة استهدفتها غارات إسرائيلية في ديرالبلح (رويترز)
تصغير
تكبير

تسيطر إسرائيل الآن على أكثر من 70 في المئة من قطاع غزة. وفي حربها، دمرت المساكن والبنية التحتية والمؤسسات والمباني العامة في المناطق التي احتلتها. فالدمار لا يستهدف المواقع العسكرية فحسب، بل أيضاً المباني المدنية (منازل ومستشفيات ومدارس) تاركاً غزة مفككة وغير صالحة للعيش، إذ تحولت أحياء بأكملها رماداً، خصوصاً رفح، حيث تؤكد صور الأقمار الاصطناعية أن أحياءً سكنيةً سويت بالأرض.

تالياً فإن الهدف واضح لا لبس فيه ويتمثل في محو الأساس المادي والمجتمعي للحياة الفلسطينية في غزة تمهيداً للتهجير القسري.

ولم يكن عابراً إعلان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير، أن «الحرب ستستمر بغض النظر عن مفاوضات وقف النار».

فكلامه يشير إلى إستراتيجية أوسع تقوم على تفكيك غزة فوق الأرض وتحتها، وتقويض أي شكل من أشكال الاستقرار، وتدمير قدرة السكان على التعافي.

فما يجري ليس مجرد عملية عسكرية، بل حملة لمحو غزة كأرض عيش. إذ أصبحت الأنفاق تحت الأرض، التي لطالما صُوِّرت على أنها تكتيك من قِبَل «حماس»، مبرراً للتدمير الشامل في مناطق حضرية واسعة.

ولم تُسفر جهود وقف النار التي قادها المبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف عن أي نتيجة. فقد عرض اقتراحه، الذي وافق عليه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقفاً موقتاً للنشاط العسكري لمدة 60 يوماً من دون ضمان وقف دائم للنار، أو انسحاب القوات الإسرائيلية، أو أي خطط لإعادة الإعمار، في الوقت الذي تطلب الاتفاق من «حماس» إطلاق نصف الرهائن المتبقين أحياءً وإعادة عشرات جثث المواطنين الإسرائيليين الذين قُتلوا جراء قصف القوات الإسرائيلية وهجماتها.

والأهم من ذلك، أنه لم يتضمن خطوات نحو خفض التصعيد على المدى الطويل أو أي حل سياسي.

لم يكن القصد من هذه الصفقة أبداً إنهاء الحرب. لقد كانت بمثابة مناورة سياسية لتخفيف الضغط المحلي على نتنياهو، الذي يواجه انتقادات متزايدة من عائلات الأسرى والضباط والمسؤولين السابقين ووسائل الإعلام التي تطالب بإنهاء الحرب.

إذ إن تأمين إطلاق سراح 10 رهائن (20 منهم ما زالوا على قيد الحياة و38 منهم قتلى) من شأنه أن يُسهم في تهدئة المعارضة ودعم ائتلافه اليميني المتطرف.

بالنسبة إلى نتنياهو، يُعدّ التوقيت إستراتيجياً: فوقف النار، الذي يبدو إنسانياً بطبيعته، يُمثّل أيضاً أداةً لتهدئة الاضطرابات السياسية في الداخل.

لكن نتنياهو لا يشعر بثقل الضغط الأميركي عليه. فمع عمل ستيف ويتكوف كحلقة وصل مباشرة بين الأهداف الإسرائيلية والدبلوماسية الأميركية، لا يرى نتنياهو أي قيود تُذكر من واشنطن، واثقاً من أن الغطاء الدبلوماسي الأميركي سيبقى قائماً بغض النظر عن التكلفة الإنسانية.

كما يتم تجاهل الانتقادات الأوروبية. فقد أظهر نتنياهو وحكومته عداءً صريحاً للإدانات الخارجية، وخصوصاً من القادة الأوروبيين الذين يتهمون إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بسبب التجويع والقتل المستمر للمدنيين في غزة.

تحدّي ماكرون

وبدلاً من الانخراط دبلوماسياً، تُواجه حكومة نتنياهو الهجمات بالتحدي. فعلى سبيل المثال، واجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ردات فعل حادة من الوزراء الإسرائيليين بعد دعوته إلى وقف النار وتحذيره من استهداف المدنيين.

وبدلاً من التهدئة، اتهم المسؤولون الإسرائيليون، ماكرون بالنفاق، بل ذهب بعض الوزراء إلى حد التلميح إلى أن فرنسا فقدت مكانتها الأخلاقية بسبب تاريخها الاستعماري. لذا يُعد هذا الهجوم الخطابي المضاد جزءاً من استراتيجية أوسع نطاقاً لنزع الشرعية عن أي انتقاد خارجي، وتصوير إسرائيل في موقع الضحية والقاضي في آن واحد.

من الواضح ان اقتراح ويتكوف تضمن أيضاً بنوداً لتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، ولكن حتى هذه البنود كانت معاملاتية.

فقد عُرضت المساعدات الغذائية كجزء من التبادل ما يجعل حتى هذا الشريان الحيوي مميتاً. فالممرات الإنسانية (بإشراف أميركي إسرائيلي) الموجودة بالفعل ضيقة وخطيرة، وتخضع لمراقبة مستمرة.

وتكشف تقارير شهود العيان عن حالة من الفوضى في مراكز الإغاثة، حيث لا يتدافع الناس للحصول على الطعام فحسب، بل يفرون أيضاً من إطلاق النار.

والفلسطينيون يُحشرون الآن في مناطق آمنة آخذة في التقلص، ويُجبرون على السفر إلى نقاط توزيع الغذاء المعتمدة من إسرائيل.

وأصبحت هذه المناطق معروفة بـ«مصائد الموت»، حيث تطلق القوات الإسرائيلية النار بانتظام وتقتل العشرات يوميا.

ويُستغلّ اليأس من الطعام كسلاح، ويُستخدم الجوع كطُعم. ووفقاً لمنظمات الإغاثة الدولية، تُجبر العديد من العائلات على الاختيار بين الجوع والمخاطرة بالموت في هذه المواقع حيث يسافر الناس لمسافات طويلة للوصول إليها. لقد جُرّد مصطلح «الوصول الإنساني» من معناه عندما تكون الرحلة نفسها في كثير من الأحيان قاتلة.

ورغم التدخل الأميركي، بات من الواضح أن الولايات المتحدة لا تعمل كوسيط نزيه. فكل خطوة دبلوماسية من ويتكوف تخضع لتدقيق إسرائيلي أولاً.

فواشنطن تعمل كقناة للسياسة الإسرائيلية، وليست قوة محايدة. ونتيجة لذلك، تُصمّم المفاوضات لخدمة أهداف إسرائيل، وليس السلام.

ويتجلى التقاء الأهداف بوضوح بين الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال السعي إلى القضاء على «حماس»، وإحداث تغيير جذري في غزة، إذ تتضمن الخطة «تهجيراً طوعياً» لأكثر من مليوني فلسطيني - وهي عبارة تُخفي الطبيعة القسرية للتهجير وتُعيد إلى الأذهان نكبة عام 1948، عندما طُرد 750 ألف فلسطيني من ديارهم ولم يُسمح لهم بالعودة قط.

قد تكون لغة اليوم مُنقّحة، لكن هذه السياسة تعكس المخطط التاريخي لتهجير السكان بالعنف.

ومع استشهاد أكثر من 54 ألف شخص وإصابة أكثر من 200 ألف، فإن حجم الدمار بدا هائلاً في منطقة صغيرة تبلغ مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً. وقد تجاوزت معدلات الإصابات المدنية معدلات العديد من الصراعات الحديثة، إلا أن ردات الفعل الدولية ما زالت خافتة.

المجاعة كسلاح

لقد استُخدمت المجاعة كسلاح. فمع إغلاق الحدود وتقييد المساعدات، يُستغل نقص الغذاء لسحق المعنويات وإجبار المدنيين والمقاومة على الاستسلام.

فالعائلات تعيش على علف الحيوانات والعشب والمياه الملوثة. وتشهد معدلات سوء التغذية بين الأطفال ارتفاعاً حاداً. وما دامت كل المقترحات تُمرر بموافقة إسرائيلية، فإن التفاوض الجاد سيكون مستحيلاً.

ما يحدث في غزة ليس أضراراً جانبية، بل إستراتيجية. فالقنابل لا تدمر المباني فحسب، بل تمحو الذاكرة والتاريخ والهوية.

ومن الواضح أن اقتراح وقف النار ليس طريقاً للسلام، بل هو إستراحة قصيرة في مشروع محو. فطالما بقيت إسرائيل والولايات المتحدة متفقتين على السيطرة على غزة بالكامل، فلن تكون هناك عملية سلام حقيقية، ولن يكون هناك سبب يدفع إسرائيل إلى وقف خططها الحربية.

ولن ينظر التاريخ إلى هذا على أنه مفاوضات فاشلة، بل سينظر إليه على أنه تواطؤ.

فتدمير غزة مُتعمّد وممنهج، ويدعمه من يدّعون الدفاع عن السلام، وتالياً إذا لم تتغير السياسة الدولية جذرياً، فإن غزة ستبقى شاهداً على ما يحدث عندما تُفرض السلطة بلا رادع وتُنتهك حقوق الإنسان.

من هنا فإن مستقبل غزة، وسلامة القانون الدولي، على المحك الآن. ويبدو أنهما مُحطّمان ومكشوفان كجبل الحطام الذي يغطي القطاع الآن - شهادة على الدمار، لا على العدالة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي