«تطهير عرقي» خلف خطاب الأمن القومي
التعايش مع «القتل الجماعي» في غزة
سجل عدّاد القتل في غزة على مدى الأيام الأخيرة، أرقاماً مفجعة من الفلسطينيين الذين استشهدوا بفعل العدوان الإسرائيلي المتمادي... ولم يكن هذا الأمر تصعيداً مفاجئاً، بل حملة مدروسة وممتدة لسحق معنويات المقاومة وتمهيد الطريق للتهجير الجماعي حالما يسمح المناخ السياسي بذلك. فما نشهده ليس «مكافحة إرهاب»، بل تطهير عرقي، مُخبأ وراء خطاب الأمن القومي.
لقد أدى سفك الدماء الفلسطيني المتواصل إلى تخدير رد الفعل العالمي. فما كان ينبغي أن يُشعل الغضب الآن يكاد لا يُلاحظ، إذ غالباً ما يتحول عنواناً عابراً، سرعان ما يُدفن. إذ أصبح القتل الممنهج للفلسطينيين أمراً طبيعياً، كما لو كان الموت الجماعي مجرد سمة أخرى من سمات الحياة اليومية في غزة، وسط الإستراتيجية الإسرائيلية لتجريد الضحايا من إنسانيتهم، وتشتيت الانتباه الدولي، والمضي قدماً من دون عقاب.
ولم يكن عادياً أن تتحدث الحكومة الإسرائيلية عن «يوم عصيب في غزة» حين يُقتل جندي واحد، فهو تحريفٌ فاضحٌ للواقع، إذ يُذبح عشرات المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، يومياً من دون اعتراف أو ندم أو رادع. ولأكثر من شهرين، واجهت غزة حصاراً شاملاً فهي محرومةً من الطعام والماء والكهرباء والدواء.
وهذا ليس سهواً بل سياسةٌ مدروسة. لقد عمد كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، مُعلنين «عدم وجود أبرياء» في غزة. هذه ليست حرباً بل إنها تفكيكٌ ممنهجٌ لشعب، بذريعة الأمن.
بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية، الاستسلام هو أمرٌ غير مطروح. كل يومٍ يحمل معه عمليات قتلٍ جديدة، وهدم منازل، ودفنٍ جماعي، ولذلك، فهناك اقتناع بأن الاستسلام لن يوقف سفك الدماء - بل سيُضفي عليه الشرعية تماماً كما يحصل في الضفة ويعطي نصراً لسياسة التوحش التي يتبعها بنيامين نتنياهو.
إذ في مواجهة هذا العنف المُستدام، يُصبح التحدي شكلاً من أشكال البقاء. وإذا كان ثمن الاستسلام هو المحو، فإن المقاومة، مهما كان ثمنها باهظاً، تُعتبر السبيل الوحيد المتبقي.
هذا المنطق المتشائم يُشكل خياراً للمقاتلين والمدنيين على قاعدة ان الاستسلام لا يوفر الأمان، بل الخضوع فقط. ففي نظرهم، فقد الجيش الإسرائيلي منذ زمن بعيد أي مكانة أخلاقية بقصفه العشوائي للمنازل والمدارس والملاجئ. وأصبحت غزة - موطن أكثر من مليوني نسمة - سجناً مفتوحاً، يُقصف يومياً من الجو والبر والبحر.
من هنا، فإن الكثيرين يعتبرون أن الموت بكرامة دفاعاً عن الوطن أو البقاء رغم هوّل التحديات هو أقل رعباً من العيش تحت حصار دائم أو الفرار إلى المنفى القسري في الخارج.
ويبدو أن نتنياهو، المعزول الآن إلى حد كبير على الساحة العالمية، يضرب بعرض الحائط أرواح المدنيين لإطالة أمد حياته السياسية - وهي حقيقة لم تعد صادمة للقادة الدوليين أو للمجتمع الإسرائيلي نفسه. فالجيش الإسرائيلي، وهو من بين أكثر الجيوش تقدماً من الناحية التكنولوجية في العالم، يتصرف من دون رادع أخلاقي، مُطلقاً العنان للدمار على نطاق نادراً ما شهدناه في التاريخ الحديث، لان الخسائر ليست عرضية، بل محسوبة.
فالعائلات تُطرد من منازلها، وتُجبر المستشفيات على الإغلاق، ويهجر المدنيون في شكل ممنهج ومتواصل من منطقة إلى أخرى داخل القطاع المدمر.
وتتزايد المعارضة داخل الرتب العليا في الجيش الإسرائيلي ويشكك كبار القادة في إمكان تحقيق أهداف الحكومة المعلنة، كالقضاء على «حماس»، أو إنقاذ الرهائن، أو تحقيق الأمن على المدى الطويل، بالقوة وحدها.
هذه الأهداف ليست استراتيجية متماسكة، بل حملة تتسم بالارتباك والتناقض.
ومع ذلك، يواصل نتنياهو المضي قدماً - ليس عن قناعة بفعالية الحرب، بل خوفاً مما سيجلب السلام من التدقيق والمساءلة والانهيار السياسي.
إذ يتهمه منتقدوه بأنه لا يضحي بأرواح الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً بالجنود والرهائن الإسرائيليين، لإدامة صراع لا يخدم أي مصلحة وطنية - بل بقاءه هو فقط.
بدأ نتنياهو بالفعل في تحويل اللوم - مستهدفاً القادة العسكريين السابقين، ومقوّضاً مؤسسته الأمنية بهدوء. يكشف هذا التبرير عن أزمة أعمق داخل القيادة الإسرائيلية تتمثل في تآكل المساءلة، مُغطّى بلغة القومية والقوة.
السبب الحقيقي وراء تعنّت نتنياهو أن ائتلافه الهش يعتمد على دعم شخصيات يمينية متطرفة مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، اللذين تدور أيديولوجياتهما حول التفوق الديني والتوسع الإقليمي وقتل الفلسطينيين وتهجير من يبقى منهم.
لذلك فإن أي خطوة نحو التهدئة قد تُفكّك هذا التحالف، وتكلفه إنهيار الغالبية البرلمانية. ما يعني ان التداعيات سريعة عبر سقوط الحكومة، وتجدد تحقيقات الفساد، واحتمال نهاية حياته السياسية.
نتنياهو غارقٌ في إرثه ويطمح إلى أن التفوق على ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء المؤسس لإسرائيل، في مكانته التاريخية. ورغم كونه أطول رؤساء الوزراء مدة في الخدمة، إلا أنه لا يبني إرثاً من القوة أو الوحدة، بل يقود أمة ممزقة في حالة انهيار أخلاقي وسياسي حر.
وبدلاً من تحقيق السلام أو الاستقرار، عمّقت قيادة نتنياهو الانقسامات الداخلية، وصعّدت العنف، وأبعدت حلفاء رئيسيين. قد يذكره التاريخ - ليس كأحد الآباء المؤسسين، بل كمهندس الانهيار الأخلاقي والسياسي لإسرائيل.
أصبح رفض نتنياهو القاطع للمفاوضات عائقاً رئيسياً أمام الحل. فقد رفض المقترحات المدعومة من الولايات المتحدة والتي كان من الممكن أن تضمن إطلاق سراح الرهائن، بمن فيهم عيدان ألكسندر، وهو مواطن أميركي إسرائيلي مزدوج. تم التخلي عن هذه القضية - التي كانت في السابق فرصةً للتقدم الدبلوماسي - لصالح استمرار الحرب، مما دفع إلى تدخل أميركي مباشر لتأمين حرية ألكسندر.
وقد أوضح نتنياهو أن أي وقف لإطلاق النار سيكون موقتاً، وستُستأنف الحرب بغض النظر عن الشروط. ولقد دفع موقفه المتحدي الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تجاوز إسرائيل تماماً خلال زياراته الأخيرة للمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة - وهو توبيخ هادئ ولكنه حاد.
وتعتقد القيادة الإسرائيلية أنه كلما أصبحت غزة غير صالحة للعيش، زاد احتمال تخلي الفلسطينيين عنها، إن لم يكن الآن، فعاجلاً. لكن هذا المنطق يُسيء فهم الواقع الفلسطيني في شكل كبير.
لقد نشأت أجيال بأكملها تحت الحصار والاحتلال، تأثرت بالمصاعب لكنها متمسكة بالأرض. هويتهم لا تنفصل عنها، وعزيمتهم - الممزقة لكنها غير المنكسرة - متجذرة في الذاكرة والتاريخ والانتماء. لا يمكن لأي قصف أن يمحو ذلك.
هذه ليست حرباً بين طرفين متساويين. إنها حملة أحادية الجانب تُستخدم فيها قوة عسكرية ساحقة ضد شعب محاصر ومشرد. إذ إن العدد الهائل من القتلى المدنيين، والاستهداف المتعمد للبنية التحتية، والرفض القاطع للتفاوض، يكشف عن استراتيجية مصممة ليس للدفاع، بل للهيمنة وتهجير السكان.
وفي قلب هذه الأزمة يقف نتنياهو، الذي يستخدم الحرب ليس لحماية إسرائيل، بل لتأجيل انهياره السياسي. حتى الحلفاء الأوروبيين القدامى، الذين كانوا يوماً ما ثابتين في دعمهم، بدأوا يبتعدون.
يُعتبر الجيش الإسرائيلي الآن - والذي كان يُنظر إليه في السابق كنموذج لضبط النفس - أنه أداة للعنف الجامح، أُعيد توظيفه لضمان طموحات قائد في أزمة. لم يعد الأمر ينطلق من منطق استراتيجي أو مبدأ أخلاقي، بل كأداة إكراه في خدمة إرث رجل واحد.
في هذه الأثناء، لم تنكسر المقاومة الفلسطينية، رغم ما لحق بها من دمار. كل فظاعة جديدة تُعزز اعتقادهم بأن الاستسلام لا يعني السلام، بل القهر والتهجير. المقاومة، في نظرهم، تبقى الحل الوحيد.
إلى أن يواجه المجتمع الدولي هذا الواقع - لا بتصريحات جوفاء، بل بضغط جاد - سيستمر القتل. يتطلب الطريق إلى السلام أكثر من مجرد تعاطف. إنه يتطلب وضوحاً أخلاقياً، وإرادة سياسية، وقبل كل شيء، مساءلة.