وسط استعراض «حماس» لقوّتها

وَقْفُ النار في غزة... سلام دائم أم مزيد من الصراع؟

مُسلحون من «كتائب القسّام» ظهروا في اليوم الأول من الاتفاق في غزة (رويترز)
مُسلحون من «كتائب القسّام» ظهروا في اليوم الأول من الاتفاق في غزة (رويترز)
تصغير
تكبير

بعد 471 يوماً من الحرب المدمّرة، أوقف اتفاق وقف النار بين إسرائيل و«حماس» أحد أكثر الصراعات تدميراً في التاريخ الحديث. ومع ذلك، فإن قابلية تطبيقه على المدى الطويل وتداعياته الأوسع نطاقاً تظل غير مؤكدة، حتى مع التحذيرات الصريحة من الرئيس دونالد ترامب التي حضّ فيها الجانبين على الامتناع عن الإجراءات التي قد تعرّض الاتفاق للخطر.

وفي حين انطلقت المرحلة الأولى بنجاحِ تَبادُل الأسرى ووقف الأعمال العدائية المقرّر أن يستمر لمدة 42 يوماً، فإن التداعيات السياسية والعسكرية لاتزال تُثير تساؤلات بالغة الأهمية حول استقرار المنطقة وإمكان السلام الدائم.

بالنسبة للفلسطينيين، يمثل الاتفاق الخطوات الأولى نحو العودة إلى منازلهم المدمّرة. ومع ذلك، فإن الحركة الكاملة شمالاً من جنوب غزة لن تبدأ إلا في اليوم السابع، بشرط انسحاب إسرائيل من شارع الرشيد. ويسلّط هذا النهج التدريجي الضوءَ على التوازن الهش الذي يدعم الهدنة والتحديات الهائلة التي تنتظر إعادة الإعمار والتوطين.

بالنسبة لقيادة إسرائيل، يُلقي وَقْفُ النار الضوءَ الساطع على حقيقة صادمة: رغم أكثر من 15 شهراً من الحملات العسكرية المتواصلة، نجحت «حماس» في فرض تحرير سجناء فلسطينيين وأظهرتْ قدرتَها على الصمود، ولاتزال بعيدة عن الهزيمة الحاسمة.

وتؤكد هذه النتيجة على حدود إستراتيجية إسرائيل وفشلها في معالجة الأسباب الجذرية للصراع، ما يترك أسئلة بالغة الأهمية حول نهجها الطويل الأجَل للأمن الإقليمي والتعايش.

وقد لعب ترامب، دوراً محورياً في فرض وقف النار، متغلّباً على مقاومة المتشدّدين الإسرائيليين. ويؤكد تورط الرئيس الجديد على التفاعل المعقّد للدبلوماسية الدولية في الصراع. وإذ ضَمَنَ نفوذُه تنفيذَ الاتفاق، لكن متانة الهدنة لاتزال موضع تساؤل.

المرحلة الأولى، المقرّر أن تستمرّ 42 يوماً، لها جدول زمني واضح. ومع ذلك، تفتقر المراحل اللاحقة إلى مواعيد نهائية محددة.

تبادل الأسرى

أظهرت المرحلة الأولى من الهدنة تقدماً ملموساً في يومها الأول، والذي تميّز بالإفراج عن 90 سجيناً فلسطينياً تحت جنح الليل، في مقابل إطلاق ثلاث إسرائيليات خلال ساعات النهار.

ويعزّز الثقلُ الرمزي لهذه التبادلات سردية المجموعة عن الصمود والمقاومة، حتى في خضم الدمار في غزة.

ومع ذلك، فإن هذه الخطوات الأولية لا تُعالِج القضايا الأعمق التي تحرّك الصراع.

ويواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تعهّد بتفكيك «حماس» واستعادة أمن إسرائيل، انتقاداتٍ متزايدةً لعجزه عن تحقيق هذه الأهداف من خلال الوسائل العسكرية.

وتخضع قيادة نتنياهو لتدقيقٍ مكثف حيث يؤكد وقف النار على حدود إستراتيجيته. فقد فشلت الحرب، التي كانت تهدف إلى القضاء على الحركة وتحرير الرهائن بالقوة، في تحقيق النتائج الموعودة.

ولاتزال «حماس» تعمل، وقيادتها صامدة رغم الخسائر الكبيرة، كما تم التفاوض على إطلاق الإسرائيليين بدل تحقيق هذا الهدف عسكرياً.

ومما زاد من تعقيد موقف نتنياهو، تصريح وزير الخارجية جدعون ساعر بأن هدف تدمير الحركة «للأسف لم يتحقق بعد».

ويغذّي هذا التصريح التكهنات حول إذا كان نتنياهو أو حكومته قدّموا وعوداً ضمنية باتخاذ إجراءات مستقبلية لتحقيق هذا الهدف المراوغ، الأمر الذي أدى إلى تعميق حالة عدم اليقين والشكوك بين مؤيديه ومنتقديه.

استعراض للنصر

توضح الصور الآتية من غزة بشكل واضح كيف استخدمت «حماس» وقف النار لإظهار التنظيم والمرونة والقوة.

وتعكس مقاطع الفيديو، وفيها مسلّحون منضبطون ومنظّمون يرتدون زياً عسكرياً وهم يطلقون سراح الرهائن الإسرائيليين، صورةً مصمَّمة بعنايةٍ للنصر وتؤشر إلى السيطرة العسكرية والمدنية على القطاع، وهي هزيمة أخلاقية للمراقبين الإسرائيليين.

ويرمز المسلّحون الذين يبدو عليهم الهدوء والسيطرة إلى رواية التحدي والقدرة العملياتية في عشرات المركبات البيضاء، من نفس النوع واللون الذي استخدموه في السابع من أكتوبر والذي ظل مطبوعاً في ذاكرة الإسرائيليين.

إن الإفراج عن 33 رهينة إسرائيلية في الأسابيع المقبلة، بما في ذلك ثلاث نساء، يتجاوز مجرد لفتة إنسانية؛ فهو مناورة إستراتيجية لتعزيز موقف «حماس».

والإفراج (المتبادَل) عن أكثر من 1000 سجين من الضفة الغربية والقدس وغزة، بما في ذلك 290 يقضون أحكاماً بالسجن مدى الحياة، يعزّز مكانة الحركة كمُدافِع عن الحقوق الفلسطينية.

إسرائيل... منقسمة ومنكمشة

إسرائيلياً، فإن المزاج مختلف بشكل ملحوظ. فرغم أن وقف النار يوفر هدنة من الصراع، إلا أنه ترك العديد من الإسرائيليين يشككون في قرارات نتنياهو.

ومن الصعب تَجاهُل التناقض بين عرض القوة المنظّم للحركة وبين الثمن الباهظ الذي يدفعه المجتمع الإسرائيلي.

إذ إن العديد من الإسرائيليين يتساءلون: لماذا رَفَضَ نتنياهو في البداية نفس اقتراح وقف النار الذي قدّمه الرئيس جو بايدن في مايو 2024، فقط لتنفيذه بعد أشهر من الحرب المدمرة؟

لقد أدى تأخير نتنياهو في الموافقة إلى تكلفة باهظة. قُتل أو جُرح الآلاف من الفلسطينيين، وتكبّدت القوات الإسرائيلية خسائر فادحة.

صحيحٌ أن الحرب خلفت دماراً في غزة، لكنها كشفت أيضاً عن نقاط ضعف عميقة داخل الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية والقيادة السياسية.

ويزعم منتقدو نتنياهو أن اتخاذه للقرار يعكس المصلحة السياسية وليس إستراتيجية متماسكة، ما يجعل العديد من الإسرائيليين يشعرون بالهزيمة وخيبة الأمل.

وقد وصفت وسائل الإعلام صفقة تبادل الأسرى بأنها «عقاب لنا جميعاً»، وحضت على بذْل الجهود لمنع الاتفاق من مزيد من تفتيت المجتمع الإسرائيلي الذي يُعاني بالفعل انقساماً عميقاً. الصفقة سيئة، وثمنها يتناسب مع حجم الفشل، ومن الآن فصاعداً، ستزداد التكلفة فقط.

فقد اعترف رئيس مجلس الأمن القومي السابق، جيورا آيلاند، بأن الحرب «انتهت لكنها انتهت بفشل ذريع لإسرائيل. حماس خرجت منتصرة لأنها حققت أهدافها وبقيت في السلطة ومنعت إسرائيل من تحقيق أهدافها».

وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أن ثمن اتفاق تبادل الأسرى «باهظ وكبير، يعكس حجم الفشل في السابع من أكتوبر 2023. فالاتفاق بعيد كل البعد عن المثالية؛ بل إنه في الواقع صفقة سيئة للغاية بالنسبة للإسرائيليين. إنه يمثل عقاباً جماعياً لفشل السابع من أكتوبر، ويسلط الضوء على حجم الكارثة وتداعياتها».

وتساءلت صحيفة «معاريف»، «ما الذي حققناه على مدار عام وثلاثة أشهر»؟

كذلك أعرب المعلق في الشؤون العربية الإسرائيلية في قناة «i24News»، تسفي يحزقيلي، عن إحباطه من مشاهد الفرح في غزة «صحيح أن حماس تلقت ضربات قاسية للغاية، لكنها تواصل القتال. في الواقع، تسيطر على الوضع في القطاع وتدير شؤونه. لقد دمّرْنا العديد من المنازل، وضحّينا بأرواح أبنائنا، وفي النهاية وصلْنا إلى النتائج نفسها... حماس سعيدة، والمساعدات تدخل، وقوات النخبة تعود».

وأكدت القناة 12 أن جيش الاحتلال لم يُحقّق أياً من الأهداف الرئيسية التي أعلن عنها في بداية الحرب، «والحركة لاتزال صامدة».

وقف النار مع التحديات

إن وقف النار يُشير إلى توقف حاسم في العنف ولكنه لا يرقى إلى مستوى توفير حل دائم. ولا شك في أن عَجْزَ نتنياهو عن تحقيق الأهداف العسكرية أو اقتراح إستراتيجية سياسية قابلة للتطبيق في غزة يترك إسرائيل في صراعٍ مع عدم اليقين الداخلي والخارجي، في الوقت الذي تُشكّل عودة الأسرى والسكان النازحين إلى الشمال بالنسبة للقطاع لحظةً رمزية وملموسة من الأمل وسط الدمار.

إن هذه الهدنة تُجسّد تعقيدات الصراع المستعصي على الحلول البسيطة. وتعتمَد متانتها على التزام جميع الأطراف بالانخراط في حوار هادف ومعالجة القضايا المتجذّرة التي تغذي العنف.

وفي الوقت الحالي، يشي الوضعُ بأنه بمثابة تهدئة هشّة وتذكير بعدم الاستقرار الدائم في المنطقة.

ويسلّط وقف النار الضوء على السرديات المتناقضة حول النصر والخسارة. وإن قدرة «حماس» على البقاء، وتأمين إطلاق السجناء، والحفاظ على هيكلها التنظيمي يمثّل إنجازاً كبيراً، في حين تواجه إسرائيل حقيقة الأهداف العسكرية غير المحقَّقة والانقسامات السياسية العميقة.

ومازال من غير المؤكد إذا كانت هذه الهدنة قادرة على تمهيد الطريق للسلام الدائم أوأنها مجرّد تأخيرٍ لتصعيد آخَر.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي