الخلاف الأميركي - الإسرائيلي حول كيفية القضاء على «حماس»
هل يتراجع الرئيس الأميركي جو بايدن أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ويرسل السلاح والذخائر الدقيقة التي تريدها إسرائيل كفائضٍ لمخزونها إذا طال أمد المعركة في غزة وفي حال توجهت الحرب نحو الحدود الشمالية مع لبنان؟
لا شك في أن نتنياهو وبايدن لا يختلفان حول الأهداف القاضية بتدمير وإنهاء «حماس» وقدرتها على السيطرة على غزة، وكلاهما لا يريد بقاء «حزب الله» (قوياً أو ضعيفاً) على الحدود اللبنانية بقدرات يملكها وتستطيع إلحاق الأذى الكبير بإسرائيل. لكن الخلاف يتمحور حول طريقة إنهاء «حماس» في وقتٍ لا تأبه إسرائيل بقتل المدنيين الفلسطينيين، وهو ما يُحدث انشقاقاً أميركياً جماهيرياً وشعبياً بين الغالبية الديموقراطية الكاسحة التي تريد وقف الحرب في وقت يخوض بايدن انتخابات رئاسية.
فقد فتحت أميركا مخازنها الإستراتيجية في صحراء النقب لحرب إسرائيل البعيدة كل البُعد عن «الدفاع عن نفسها بنفسها» كما يدّعي نتنياهو في لحظاتِ انتشائه. إذ إن حرب غزة أثبتت أن إسرائيل لا تستطيع خوض أي حرب أطول من شهر واحد من دون دعم أميركي. و خلال سبعة أشهر، تسلمت إسرائيل عبر جسر جوي وبحري أكثر من مئة شحنة من الأسلحة بما فيها عشرات الآلاف من الذخائر التي تعجز عن تحمل نفقاتها.
وأكدت القيادة العسكرية الإسرائيلية أنها استخدمت كميات من الذخائر أكثر من أربع مرات مما توقّعتْه منذ بداية المعركة لضرب مئات الأهداف اليومية. وأرسلت أميركا وألمانيا الذخائرَ المتنوعة من الدفاعات الجوية والذخائر «الغبية» و«الذكية» وقذائف مدفعية وصواريخ هيلفاير وقاذفات للدبابات. وأرسلت الولايات المتحدة قوات دلتا وحاملات للطائرات ونشرت طائرات مقاتلة في الشرق الأوسط لدعم إسرائيل وللحفاظ على قدراتها المتفوقة ومعالجة نقاط الضعف، ما أعطى إسرائيل الشعورَ بالثقة المفرطة. وتقدّم واشنطن أسلحة بقيمة 3.8 مليار دولار سنوياً، أضاف إليها جو بايدن 15 مليار دولار الشهر الماضي في شكل مساعدات حربية لإسرائيل.
من الواضح أن تهديد بايدن بتجميد القذائف الدقيقة فقط والاستمرار بتزويد إسرائيل بكل ما تحتاجه هو قرار سياسي لا يؤثّر عملياً على حروب نتنياهو الذي لا يبالي بحياة المدنيين الذين قتل منهم عشرات الآلاف في غزة منذ أكثر من 7 أشهر.
وهذا ما عبّرت عنه بصراحة العضو من حزب الليكود تالي غوتلييب التي دعت من على منبر الكنيست إلى «تدمير عشرة مباني بقنابل غبية – تمدها أميركا وتسلمها لإسرائيل بالآلاف - بدل استخدام قنبلة ذكية لتدمير مبنى واحد» في إشارة لعدم الاكتراث للقرار الأميركي الضاغط.
وقد أثبتت إسرائيل أنها هي التي تتحكّم بقرارات الإدارة الأميركية (وليس العكس) وأن جهل هذه الإدارة بالتعاطي مع الشرق الأوسط لا يقتصر على أعداء واشنطن وخصومها بل أيضاً على أقرب حلفائها الإستراتيجيين، إسرائيل، على الرغم من وجود عدد كبير من اليهود والصهيونيين، وعلى رأسهم الرئيس بايدن، داخل هذه الإدارة.
وما قرره بايدن بالنسبة لحجب أنواع محدّدة من الشحنات من الذخائر الدقيقة أعطى فرصة لنتنياهو ليقدم نفسه أمام الشعب الإسرائيلي المتشدّد كبطل له القدرة على مواجهة أميركا وإدارة الحرب والضغط المحلي والدولي في آن واحد، هو الذي يراهن على أن هذه الخطوة ليست سوى دق للطبول ولن تصمد طويلاً ما يعطيه فرصة استعراضية ليُظْهِر نفسه القائد الذي يستطيع ترويض أميركا لمصلحة الأمن القومي الإسرائيلي وأن الكلمة الأخيرة والانتصار لمَن يصمد على موقفه أمام أنظار العالم.
وما يعول عليه نتنياهو هو تعرّض بايدن لانتقادات داخل معسكره الديموقراطي، ليس الشعبي فقط، بل بين الديموقراطيين القادة الذين انتقدوا خطوة الرئيس الحالي بتجميد هذا النوع من الأسلحة لأن، من حيث المبدأ، دعم إسرائيل واجب أيديولوجي وأمني لأميركا.
وقد اغتنم القادة الإسرائيليون هذه الفرصة، مثل وزير الدفاع يوآف غالانت، ليعلن أنه «سيحقق الأهداف في الجنوب (غزة) والشمال (لبنان) وسيقضي على حماس وحزب الله». وهذا التصريح تحدٍّ صارخ لبايدن ليقول إن إسرائيل ستوسع الحرب إذا شاءت وانها تستطيع فتح جبهة على لبنان أوسع مما هي عليه وان واشنطن ستلتحق بالخطط الإسرائيلية التي ترسمها رغماً عن أنفها.
لقد قال نتنياهو إن «إسرائيل ستقف وحدها» إذا كان ذلك لا بد منه، وهو يعلم أن أميركا وقفت معه منذ اليوم الأول للحرب وأنها لن تتخلى عن إسرائيل. فبايدن أكد أنه سيمدّ إسرائيل بالأسلحة الدفاعية التي يحتاج إليها، وتالياً فإن قراره بعيد عن صحوة الضمير لأن الرئيس الأميركي أكد أن «إسرائيل لم تتجاوز الخطوط الحمر» طوال مدة الحرب، على الرغم من اعترافه بسقوط عدد هائل من المدنيين، وأن البنية التحتية قد دمرت وبصواريخ أميركية الصنع. وهذا يعني أن قتل 35000 فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء والمدنيين لا يُعد بالنسبة لأميركا خطاً أحمر.
ولم يتجاوز نتنياهو الخط الأحمر – حسب بايدن - خط فيلادلفيا الذي مازالت اسرائيل تبعد عنه مسافة 200 متر وهي تقدّم التفاصيل اللازمة لتعداد القوات الموجودة داخل معبر رفح وفي المربع الأول الذي دخلت إليه قواتها لتتجنّب استفزاز مصر. وتالياً، فإن الأمور بالنسبة لأميركا وإسرائيل مازالت تحت السيطرة وهي مفتوحة على احتمالات عدة تحدّدها التفاهمات المستقبلية.
إلا أن الوفود المُفاوِضة الفلسطينية والقطرية والأميركية غادرت مصر لتتوقف المفاوضات وتنهار بعد عودة الوفد الإسرائيلي الفني إلى تل أبيب ورفْض نتنياهو الوثيقة المصرية - الأميركية التي وافقت عليها حماس قبل بدء عملية رفح. وهذا لا يعني أن معاودة التفاوض غير ممكنة، وخصوصاً بعد تأكيد إسرائيل الرغبة بالتفاوض من دون وقف الحرب.
فالخلاف الأميركي - الاسرائيلي تكتيكي وليس جوهرياً ويتمحور حول «اليوم الثاني» لِما بعد الحرب (وليس حول القضاء على حماس التي يتفق عليه الطرفان) والخيارات البديلة عن الحرب على رفح ومَن سيدير غزة وكيفية سلخ حماس عن قيادة القطاع. فنتنياهو يحتاج للحرب على رفح لإبقاء المعركة مشتعلة لأطول فترة ولأشهر عدة، حتى لمدة أطول من سنة، كما يقول القادة الإسرائيليون، ليحقق انتصاراً ما ليبقى في السلطة.
في المقابل تعتقد أميركا أن بالإمكان التخلص من حماس من دون اللجوء إلى الحرب، تماماً كما فعلت مع داعش في سورية. ويريد بايدن سحْب ملف حرب غزة ونتائجها الكارثية عن جدول التداول ليتفرّغ لانتخاباته الرئاسية بعيداً من الانتقادات الشعبية التي يتعرّض لها بسبب استمرار القتل الإسرائيلي للفلسطينيين في غزة.
وترى أميركا أن دولاً شرق أوسطية عدة مستعدة لإرسال قوات تندمج مع قوات أجنبية أخرى داخل غزة وأن عهد سيطرة حماس انتهى من خلال النتائج التي أفرزها السابع من أكتوبر، وأن إعادة بناء غزة لن تتم إلا بعد إنهاء حكم «حماس». ولكن السلطة الوحيدة البديلة – في نظر أميركا ودول الشرق الأوسط - هي السلطة الفلسطينية التي يستبيحها نتنياهو ووزراؤه من خلال تسليح وإطلاق يد المستوطنين وتعدُّد الهجمات اللا محدودة على الضفة الغربية وعلى المناطق التي حددها اتفاق أوسلو والواقعة تحت سيطرة السلطة حصراً. ولا توجد سلطة فلسطينية مستعدّة لدخول أو للسيطرة على غزة ما دامت حماس – كعقيدة – لا يمكن هزيمتها ومازالت قواتها موجودة في الشمال والجنوب ورفح.
إلا أن نتنياهو صرح علناً أنه لا يرضى بحكم «فتحستان ولا حماسستان» وان «أوسلو قد انتهى». وتالياً فإن الحل الذي يطمح إليه بايدن غير متوافر في العقلية الصهيونية، والخلاف مستفحلٌ بين أميركا وإسرائيل حول الإستراتيجية المقبلة وحلّ الدولتين. إذ إن تل أبيب، تحت حُكْم حزب الليكود والأحزاب المتطرفة الأخرى ونظراً لما آلت إليه حال التطرف القصوى لدى المجتمع الإسرائيلي، تشير بوضوح إلى أن الهدف المستقبلي يتمثل في تهجير الشعب الفلسطيني من غزة أولاً ومن الضفة ثانياً. ولذلك فإن بقاء هذه الحكومة المتطرّفة مهمّ لتحقيق هذه الأهداف الإسرائيلية التي لا تريد فقط المقارعة العسكرية مع الفلسطينيين، بل إن الأهداف تتضمن أيضاً «صيفاً ساخناً» مع لبنان، كما قال وزير الدفاع غالانت.
إنها معركة عضّ الأصابع على جبهات عدة، وهي مسألة وقت فقط يحاول نتنياهو كسْبه لتَظهر أهدافه الحقيقية التي لا تقدّم سوى الحروب لإسرائيل وللفلسطينيين وللبنان أيضاً. فالخلاف مع أميركا يمثل المن والسلوى لنتنياهو الذي يستغلّ معركته مع واشنطن ليُظْهِر قوته ويضع نفسه على نفس مستوى الولايات المتحدة بقوله إنه «يأمل العمل مع بايدن لتجاوُز الخلافات»، كما ليُظْهِر ضعفَ رئيس أقوى دولة في العالم الذي «يطرح (ولا يستطيع فرض ولا تهديد ولا ابتزاز) أمام إسرائيل بدائل للتخلص من حماس بطرق أخرى».
في خلاصة بسيطة، يختلف الرجلان على كيفية قتْل المزيد من الفلسطينيين وليس على مبدأ التخلص منهم.