No Script

أبعاد السطور

من أجل صلالة (3 من 3)

تصغير
تكبير

على مدى الحلقتين السابقتين (من أجل صلالة)، استعرض الكاتب حسين الراوي وقائع فقدانه للرحلة انطلاقاً من مطار الكويت إلى مسقط، والتزاماً منه بموعد تقديم دورة تدريبية في كتابة المقال في صلالة، ما حدا به بالمجازفة للسفر إلى أبوظبي عبر دبي في رحلة قد لا توصله وجهته في الوقت المحدد. وفي هذه الحلقة الثالثة والأخيرة يسهب في السرد بدءاً من لحظة وصوله مطار أبوظبي وانتهاءً إلى صلالة.

جلست في تلك اللحظات وفي داخلي نسبة القلق بدأت تقِل، وبدأت أشعر أيضاً بشيء من الهدوء النفسي. كنت أشرب القهوة بلهفة، وكأنها هي المرّة الأولى التي أتذوق فيها القهوة!

كانت نكهة القهوة مُركزة جداً بقدر ما أحتاجه من نشاط وانتباه، وكانت القهوة مُرّة بقدر مرارة ذلك الوقت والخوف والتردد الذي مرّ على روحي وبدني!

عبرت بوابة الصعود للطائرة، والآن أنا أسير فوق الممر المؤدي إلى دخول الطائرة، كنت أتنفس ملء رئتي منتشياً، وكانت تحاصرني مشاعر ممزوجة بين عَبَرة وغصة النجاح، وبين فرحة التمكن من الاتجاه نحو صلالة، إنها أول خطوات نجاح المغامرة التي خضت غمارها بنسبة كان فيها المجهول أكبر بكثير من نسبة المعلوم!

وصلت إلى المقعد الذي انتقاه لي ذلك الموظف المسؤول، وحينما جلست تنهدت تنهيدة كانت من أقصى نقطة في جوفي، لم أتنهد بمثلها طيلة حياتي، شعرت معها بأني أخرجت كل لحظة تعب وقلق وملل وتردد عشتها منذ اللحظة الأولى التي بدأت اُفكر فيها بألا أعود إلى المنزل وأنا مملوء بالخيبة.

ونحن في كبد السماء، عندما سمعت كابتن الطائرة يقول إنه سيتم الآن الاستعداد تدريجياً للهبوط في مطار صلالة، حينها غمرتني السعادة، وضحكت روحي، ومُسِح عن جبيني التعب، وطار القلق بعيداً من جوفي.

بعد أن أنهيت إجراءات الوصول في مطار صلالة، نزلت إلى السرداب، واتجهت نحو مواقف السيارات المُستأجرة، عندما خرجت من ذلك الباب وقفت أنظر للسماء وللغيوم وللشجر، وأملأُ جوفي من شذى النسمات الباردة، وشعرت حينها بأن كل الكون كان يُحييني ويبتسم لي، بفضل الله تعالى وكرمه، ها أنا ذا في صلالة.

وصلت للسيارة التي كنت قد استأجرتها، وأدخلت حقائبي فيها، نظرت إلى ساعة السيارة فوجدتها تشير إلى 10 و45 دقيقة صباحاً. قدت السيارة نحو فندق حدائق صلالة الذي تعوّدت على السكن فيه منذ سنوات، كنت أقود السيارة وأنا لا أعرف؟! هل كانت عجلات السيارة تلامس الأسفلت أَم أنها كانت تطير بجناحين فوق شوارع صلالة من شدة فرحتي!

دخلت إلى الفندق وتبادلت السلام مع الأصدقاء الموظفين هناك، وطلبت منهم أن يوقظوني في تمام الساعة الرابعة عصراً. دخلت إلى الغرفة في الساعة 12 ظُهراً، بينما كان يفترض أن أدخلها في الساعة الثالثة فجراً لولا الذي حصل!

اطفأت التكييف على الفور، وفتحت باب الشُرفة الزجاجي بكامل مساحته، وكانت الشرفة تطل على حديقة ونافورة المنتجع، وفتحت أيضاً نافذة غرفة النوم، وبدأت تدخل نسمات الهواء المنعشة للمكان، تلك النسمات الغالية التي غامرت وتعبت وسهرت وقلقت من أجلها.

رميت بجسدي على السرير الوثير، وحينما لامس رأسي برودة الوسادة أغمضت عيني الساخنتين، وكنت مبتسماً ومشتاقاً للجمهور، الذي سوف ألتقي به مساء في دورة كتابة المقال.

في الساعة الرابعة عصراً تم إيقاظي من النوم، فقمت على الفور والفرحة تغمرني، وتحت قطرات دُش الاستحمام الدافئة شعرت باليقظة النفسية والروحية. ثم لبست وتهندمت وتعطرت، وجمعت كل الأوراق الخاصة بالدورة التدريبة وأخرجت جهاز اللابتوب أيضاً، استعداداً للذهاب إلى مُجمع السلطان قابوس الثقافي حيث مكان الدورة التدريبية.

في تلك القاعة التدريبية وقفت أمام ذلك الجمهور الذي أحبه، ذلك الجمهور الذي لم أتراخ أبداً في الوصول له، ذلك الجمهور الذي لم أُرخص محبته إلى الوقت والمطارات والمسافات والتعب، ذلك الجمهور الذي جاء من أجلي من مُدن عدة في ظفار.

كان عدد الحضور رائعاً من السيدات والسادة في اليوم الأول، الذي كان بتاريخ الأربعاء 21/ 2/ 2024، وكان لابد أن أحدثهم عن تجربتي الشخصية مع الكتابة، لما فيها من سنوات عديدة من التجارب والمعرفة المتعلقة بالكتابة والتأليف وتقديم الدورات التدريبية، ولقد حدثتهم عن الاختلاف في تعاريف المقال، وعن سقف الكتابة، وعن أهم عناصر المقال، وعن أهم مميزات المقال، وعن الخطوط العريضة له.

بعد نهاية الوقت أخبروني بأن بعض الحضور جاء إلى القاعة ثم انصرف لأنه لم يتوافر لهم بعض المقاعد، ولقد أشعرني ذلك بالحرج من أجلهم.

في اليوم التالي الخميس 22/ 2/ 2024، كان عدد الحضور أيضاً رائعاً، وتطرقت فيه إلى نماذج وأمثلة كثيرة للكُتاب والمقالات والكُتب التي تسبب بأضرار ومشاكل لأصحابها، وعرضت عدداً من مقالاتي المختلفة في نوعها وطريقتها ومضمونها وأسلوبها، لكي يعرف المتدربون الفوارق بين المقالات تعريفاً وموضوعاً وأسلوباً وشكلاً. ولقد اقتنصت فكرة أحد المتدربين الذين تحاورت معهم في القاعة، في اليوم الأول للدورة التدريبية، حيث كان يسألني عن كيفية الدخول لكتابة مقال ناجح عن موضوع (جمع الدّية)، ولقد حضرت في اليوم الثاني للدورة وقدمت لهم على شاشة العرض مقالاً جديداً عن (الدّية)، كنت قد كتبته في الصباح الباكر في ذات اليوم، ولقد ساهم ذلك المقال في إيصال بعض الطُرق الفكرية التي تساهم في كتابة مقال ناجح.

ساهمت الأسئلة المتعددة والمتنوعة من ذلك الجمهور الرائع في إيصال نسبة كبيرة من ضروريات كتابة المقال، ومعلومات خاصة بالدورة التدريبية إلى أفهامهم الطيبة.

لم أقم بإعطاء أي تمارين حول كتابة المقال، لأن هذا النوع من الدورات لا يحتمل مثل تلك التدريبات السريعة، التي لا تحتاج إلى تركيز وتأمل وتفكير وهدوء مكان ونفسي، لكني كثفت الشرح والنماذج والأمثلة عوضاً عن ذلك، بشكل يجعل الجمهور المتلقي يشعر بالاكتفاء الأدبي.

وزعت على الجمهور في اليوم الأول أوراقاً أدبية مميزة، هي بمثابة البوصلة التعليمية الفكرية التي تشير نحو الدخول لعالم المقال بخُطى واثقة، وذلك لأنني جعلت فيها الخلاصة المعرفية المختصرة لتجربتي، في أدق الاحتياجات العامة والخاصة لمن أراد أن يتعلم كتابة المقال بشكل صحيح، وكان عدد تلك الأوراق 7 أوراق، مكتوبة على شكل نقاط مختصرة ومباشرة.

في يوميّ الدورة التدريبية تم توزيع أكثر من 360 ورقة على الجمهور، كانت على شكل مجموعات من الرُزم، ورغم هذا جاءني بعض الجمهور عند نهاية الدورة في القاعة يطلب مني تلك الأوراق التي تم توزيعها! إلى درجة أنني عطيت الأوراق الخاصة بي لإحدى المتدربات الكريمات حيث لم تكن حاضرة في اليوم التدريبي الأول.

الأخت الأستاذة إشراق النهدي، هي صاحبة اليد الأولى التي صافحتني ثقافياً وأدبياً وأخوياً، من أجل إقامة تلك الدورة التدريبية عن كتابة المقال، ولقد كانت نعم الأُخت هي، حيث كانت متعاونة معي بشكل جميل في كل ما يخص الدورة، وهذا ما دفعني لأن أوافق على جميع اختياراتها للأيام والمواعيد المتعلقة بالدورة التدريبية، ولقد وافقت عليها برضاً تام ومحبة من أجل الجمهور العُماني. ولا أنسى أيضاً تلك الأرواح الرائعة في مجموعة (مجلس إشراقات ثقافية)، التي كانت تُدير بإسلوب جميل وراق ما يتعلق بالدورة التدريبة، وكيف لا؟ وهي تضم نخبة مميزة من المبدعين والمبدعات.

أهداني بعض جمهور الدورة التدريبة العديد من مؤلفاتهم ومقالاتهم، ولقد كنت فرحاً بذلك فرحاً كبيراً.

مقال (القهوة أُنثى) أثار هدوء بعض النساء اللاتي حضرن للدورة التدريبية، حينما تم عرضه ومناقشته كنوع وإسلوب كِتابي يَستخدم الرمز والإسقاط الفلسفي كنوع من أنواع المقالات. النقاش حول ذلك المقال كان جميلاً، كبقية النقاشات الأخرى في الدورة.

بفضل الله تعالى انتهت الدورة التدريبية بنجاح كبير، رغم أنه لم يتم الإعلان عنها إلا بشكل صغير جداً وبنطاق ضيّق، ورغم كل ذلك أنا سعيد جداً وممتن لمن ساهم في إقامتها ونجاحها.

شكراً مُستحقاً للإخوة الكرام القائمين على إدارة مجمع السلطان قابوس الثقافي.

حفظ الله تعالى شعب عُمان، وحفظ الله تعالى السُلطان هيثم بن طارق آل سعيد، وحفظ الله كل شبر في السلطنة العظيمة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي