No Script

خواطر صعلوك

كيف تصحّرت روح الكاتب الأصلع؟

تصغير
تكبير

أول كاتبين تعرّفت عليهما في حياتي، كانا كاتب اليمين وكاتب الشمال الجالسين على أكتاف البشر، وقد عرّفني عليهما جدي -رحمه الله- في ليلة شتوية لم تكن باردة... وقد أُعجبت وفُتنت بالكتابة ذاتها، بعيداً عن الكُتّاب «الملائكة» الذين حدّثني عنهم.

وعندما كبرت كنت دائماً أتخيّل ما يكتبان، وكيف يكتبان، ومن سيقرأ شهادتهما ورواياتهما عن الشخص ذاته... إنهما الكاتبان اللذان حدّثني عنهما مرة أخرى معلم التربية الإسلامية في الصف الثالث الإبتدائي.

أحدهما على كتفك اليمنى، مُكلّف بحسناتك وجميل أفعالك، والآخر على كتفك اليسرى بزلاتك وسوء سريرتك.

وأذكّر نفسي دائماً قائلاً «واعلم أنك تحمل على كتفيك كاتبين... أحدهما على يمينك، يُسجّل الخير ويُوثق النوايا الحسنة، ويسرد قصتك العطرة، متمكنٌ من الوصف والسرد والرواية، جميل الخط، رشيق الكلمة، يعلم أن كتابه سوف يُقرأ أمام البشر أجمعين يوم القيامة... أمّا الآخر فعلى شمالك، كاتبٌ سليم السريرة، ولكنه كُلّف بكتابة زلاتك، وهفواتك، أمين الكلمة، ساطع الرؤية، يختصر في السرد ويُكثف المعنى، ويعلم أن كتابه سوف يُقرأ في حال من الخزي لسيرة صاحبه».

ثم اعلم أن في الطريق أبواباً كثيرة، على يمينك وشمالك، فاختر لنفسك الكلمة التي تريد أن تُكتب عنك، أو تكتبها لنفسك... واعلم أن اللهَ خلقَ القلمَ وقال له «اكتب» ما هو كائن.

في «الكويت»، وهي دولة يتسارع فيها الاستقطاب السياسي المفرط بين مؤيد ومعارض على كل شيء وفي كل مناسبة وعلى أي قرار، وفيها مدافعان عن كل شيء، مثل الشذوذ والتطبيع والسفور والإباحية والإلحاد، وتسييس الدين والمتاجرة بالوطنية، ينبغي على الكاتب أن ينظر بعين التجرد، وألا يُفند القيم العُليا للمجتمع بل يكتفي بوضع القفّاز على الأقل عند تناولها، ويُبصر ويُراقب طوال الوقت، ولا يستعجل في إطلاق الأحكام، أو ذم ومدح الأشخاص، وأن يبتعد عن الثنائيات «إما/أو» ونحن وهم، قوى الشر أو قوى الخير... فقدرة الكاتب عبر الزمن لم تكن في اللعب بالكلمات والتشبيهات والميل للثنائيات، بل في إخراج العقل البشري من الثنائيات إلى المساحات التي تتسع الجميع، ولا شك أن الكُتَّاب الذين ينساقون خلف العواطف الاجتماعية، والمُطالبات الفئوية ذات الطابع المُستهلك، والمُصطفِين خلف الأبواق العالية والكليشهات الشعبوية... أقول لا شك أنهم سينالون الشهرة وترديد أسمائهم في تاريخ الثنائيات، تلك الثنائيات التي تكون أول ضحاياها هي الحقيقة.

واعلم أيها الكاتب الأصلع الذي تصحّرت روحه حتى بلغت المنتهى، مهما بلغت شهرتك، فإن أهم سطر قد يُكتب في سيرتك هو أنك نجحت في أن تجعلنا جميعاً نبغض بعضنا البعض أكثر مما نبغض الشيطان ذاته، وأنك من الكُتّاب الذين أُشربُوا في قلوبهم العِجل.

اليوم، عندما أنظر للوراء يدهشني أنني سقطت يوماً ما في هذه الثنائيات بحثاً عن شهرة أو مجد، حيث كنت ابن مرحلتي العمرية ووعي القاصر... وفي نهاية المطاف أدركت أنّ كلَّ ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

Moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي