جنوب أفريقيا تُحرِجُ قضاة محكمة العدل الدولية لوقف حرب إسرائيل على غزة
بدأت محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية وجزء من الأمم المتحدة، جلسات النظر في الدعوى المقدّمة من جنوب أفريقيا ضد اسرائيل وتتّهمها فيها بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، كطرف موقّع على اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي توصل إليها دول أعضاء الأمم المتحدة عام 1948، بعد الحرب العالمية الثانية، بغرض إلزام إسرائيل بوقف الحرب فوراً.
وقد أظهرتْ جنوب أفريقيا شجاعةً فريدة في تقديمها هذه الدعوى التي لم تتقدم بها أي دولة أخرى في الشرق الأوسط وآسيا لتُظْهِر ان إسرائيل وصلت إلى مستوى من الإفلات من العقاب تدرك فيه أنها لن تُحاسَب أبداً على أفعالها. وهذا ما جعلها خطرة لدرجة أنها أصبحت خارج السيطرة ولم تعد تكلّف نفسها عناء التفكير بضرورة الالتزام بضبط النفس.
وقفت جنوب افريقيا، وهي العضو الأساسي في منظمة «البريكس» (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، مصر، إثيوبيا، إيران، السعودية والإمارات)، لتتحدّى إسرائيل وحليفتها الرئيسية أميركا التي وصف وزير خارجيتها انتوني بلينكن الدعوى بـ «غير الضرورية ولا تساعد وتشتّت الجهود»، ولتجرّ تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية بسبب تصريحات مسؤوليها وأفعال جيشها منذ السابع من أكتوبر في قطاع غزة وضد سكانه الأبرياء المدنيين.
وقد دعم قرار جنوب أفريقيا كل من الجامعة العربية (22 دولة) ومنظّمة التعاون الإسلامي (65 دولة) وبلجيكا وكولومبيا والسعودية وباكستان والبرازيل والمغرب ونيكارغوا وتركيا والأردن وماليزيا وبوليفيا وفنزويلا والمالديف وناميبيا.
وما تطمح إليه جنوب أفريقيا هو إصدار قرار أولي فوري بوقف إطلاق النار قبل أن يصدر القرار النهائي الذي من يمكن أن يحتاج إلى سنوات لإخراجه. فقد سبق وقدّمتْ غامبيا قضية ضد ميانمار لارتكابها جرائم إبادة قُتل فيها 740.000 من الروهينغا عام 2017 واتخذتْ المحكمة الدولية القرار الأولي بعد شهر ونصف الشهر من تقديم الدعوى وصدر القرار النهائي في يناير 2020.
وفي فبراير 2022، قدمت أوكرانيا دعوى ضد روسيا لتُصْدِر محكمة العدل الدولية بعد ستة أسابيع القرار الأولي لتنضم إلى أوكرانيا 32 دولة في دعواها كي لا تتهم هذه الدول بالتقصير أو التغاضي.
وهذا ما تأمله جنوب افريقيا في أن ترى الحكم الأولي يَصدر بعد وقت قليل جداً وتنضمّ إلى الدعوى دول أخرى لن ترغب في أن تكون جزءاً مما ترتكبه إسرائيل ضد الفلسطينيين وتُعلَّق العمليات العسكرية فوراً لوقف قتل المدنيين.
وقد استندت جنوب افريقيا في دعواها التي تتألف من 84 صفحة إلى تصريحات 200 من المسؤولين الإسرائيليين والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة العاملة في فلسطين والمسؤولة عنها وخصوصاً ما قاله الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي اعتبر ان «غزة أصبحت مقبرة ضخمة» بسبب الأعمال الحربية الإسرائيلية.
ويحتاج القرار لموافقة 8 من أصل 15 قاضياً يشكلون هيئة المحكمة لإصدار الحكم الأولي والنهائي بعدها.
ومن المتوقع أن يكون صعباً جداً على هؤلاء القضاة عدم الأخذ في الاعتبار والتغاضي عما قالتْه مؤسسات الأمم المتحدة وأمينها العام وكذلك كبار المسؤولين الاسرائليين داخل الحكومة والكنيست، وعن مسألة العقاب الجماعي والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب في غزة حتى ولو لم توافق الأكثرية أو عدد كبير منهم على اتهام «الإبادة الجماعية».
لذلك من المستبعد جداً ألا تطالب المحكمة بوقف الأعمال الحربية بعد وقت قصير من انتهاء الاستماع للدعوى والنظر الأوّلي فيها. وهذا سيكون بمثابة هزيمة لإسرائيل حتى ولو لم تلتزم لاحقاً بالقرارات الدولية واعتُبرت دولة مارقة كما فعلت سابقاً، غير آبهةٍ بعشرات من المقررات الدولية التي دعمت الشعب الفلسطيني وصدرت ضدّ ما تمارسه إسرائيل منذ عام 1948، كما نصت عليه الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا، خصوصاً ما صدر حيال الجدار العنصري الذي بنتْه في فلسطين ورفْضها إزالته.
وهكذا قرار سيُلْزِم الدولَ التي ترسل السلاحَ لإسرائيل مثل أميركا وألمانيا وهولندا وفرنسا وبريطانيا بالتوقف عن ذلك أو تجد نفسها في موقعٍ مخالف للأمم المتحدة ما سينسف القانون الدولي برمّته ويشرّع العالم على شريعة الغاب حيث القوي يأكل الضعيف ويدمّره غير آبه بالتداعيات.
فقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت تقريراً عُرف بتقرير (القاضي ريتشارد) غولدستون لتقصي حقائق أفعال عام 2008 و2009 بعد الحرب على غزة التي استمرت 22 يوماً وأظهر جميع الانتهاكات التي ارتكبتْها إسرائيل في سياق العمليات العسكرية من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واستهداف المدنيين عمداً وارتكاب انتهاكات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة واستخدام القوة غير المناسبة.
ورأى التقرير حينها - مثلما تفعله إسرائيل اليوم - ان «الاستهداف المباشر والقتل التعسفي للمدنيين الفلسطينيين يشكل انتهاكاً للحق في الحياة واستهداف المواقع الصناعية ومنشآت المياه واستخدام المدنيين الفلسطينيين كدروعٍ بشرية واتباع القوة غير المناسبة وتدمير الممتلكات المدنية والبنية التحتية».
وكما حُوِّل تقرير غولدستون إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في حينه، من المتوقع ان تلاقي هذه الدعوى مصير المسار نفسه غير المُلْزِم لإسرائيل، علماً أن العالم فَقَدَ الثقة بجدوى المؤسسات الدولية ولم يَعُدْ يجد لزوماً لدرس والغوص في القوانين الدولية التي لا تُنفذ على الجميع بالتساوي، ليستيقظ الوعي العالمي والشعبي حول العقل الإجرامي الإسرائيلي ومظلومية القضية الفلسطينية وتتم الإشارة بالإصبع الاتهامي إلى جميع الدول التي وقفت ضد فلسطين ودعمتْ جرائم إسرائيل.
ولم تَعُدْ إسرائيل تستطيع التبجح بالديموقراطية بعد اليوم لأن أعمالها الاجرامية سبقتْها وهي لم تستح من الجهر بها، لتفقد مع حليفتها أميركا دعمَ الرأي العام العالمي. وهنا تكمن أهمية دعوى جنوب أفريقيا التي تصيب إسرائيل في صميمها وتُحْدِثُ أضراراً لا تُعوَّض لها ولمَن يقف معها.