وسط غطاء أميركي لا محدود لإسرائيل
حلفاء غزة يستعدّون لخطواتٍ متدحرجة لدعمها
تَمْضي إسرائيل في تنفيذ أهدافها غير المعلَنة بتدميرٍ ممنهجٍ لغزة وتطهيرٍ عرقي غير آبهةٍ بالقوانين الدولية، أو ببثّ جرائمها على شاشات التلفزيون (بل يعمد جنودها لنشر مجازرهم وتدميرهم للأحياء)، ولا بما قدّمه حلفاء المقاومة الفلسطينية المستمرّين بمضايقتها.
فماذا يستطيع فعله هؤلاء لثني إسرائيل عن الاستمرار بمخططها المستمرّ منذ 78 يوماً ووقف دعم أميركا لها من دون حرْف النظر عن القضية الفلسطينية؟
من البدهي أن تكون حركةُ «حماس» بعيدةً عن توقُّع ردّ فعل إسرائيل على هجومها يوم السابع من أكتوبر بهذا الشكل والبدء بمحو غزة عن الخريطة ومعها سكانها. نعم، لقد استعادت القضية الفلسطينية وهجَها وبرزتْ على الساحة الدولية وتمتّعت بدعمٍ شعبي دولي لا محدود.
إلا أن هذا لم يَمنعْ إسرائيل من أن تضربَ عرضَ الحائط ما تفكّر به الشعوب وخسارة سمعتها ومكانتها «الديموقراطية» التي كانت تَدّعي بها أو اتهامها بجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.
فتوجيهُ ضربةٍ لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وللجيش الإسرائيلي «الذي لا يُقهر» دَفَعَ بالحكومة لوضع أهداف على شاكلتها المتطرّفة لهدر دم الفلسطينيين من دون التمييز بين طفل أو امرأة أو مُسِنّ أو طبيب أو مُسْعِفْ أو مدرّس أو صحافي أو مدني.
كذلك فعل الجيش بتوجيه ضربات قاسية واستخدامه قنابل ذكية وغير ذكية لإحداث دمار شامل ومحاولة استعادة سمعته.
ولم يُجْدِ نفعاً بدء الانتخابات الرئاسية الأميركية وتأثير حرب غزة على سمعة أميركا في ثني نتنياهو عن أهدافه لإنقاذ نفسه.
فاضطرت واشنطن للرضوخ ودعم إسرائيل «لإكمال مهمتها» حتى ولو كلف ذلك مكانتها الدولية ودورها القيادي للعالم من خلال التباهي بحمل شعائر حقوق الإنسان والإنسانية والقوانين الدولية وحرية تقرير المصير والدفاع عن المظلومين في أوكرانيا واتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجرائم حرب والتحضير لحشد حلفاء لمحاصرة الصين.
كل ذلك لم يشكل أي ورقة ضغط لوقف حرب إسرائيل قبل تحقيق أهداف تحرير الأسرى والقضاء على «حماس»، باعتبار أن هذا سيقضي على مستقبل نتنياهو السياسي وكذلك على فريقه الوزاري الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل وينهي حكمهم مثل وزير الأمن ايتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش، وسيدفع برئيس الحكومة للمحاكمة وإنهاء حياته السياسية خلْف قضبان السجن بسبب اتهامه بالفساد وحصول نكبةِ يوم السابع من أكتوبر خلال نوبته الحراسية.
على العكس ازداد هؤلاء تصميماً على إكمال الحرب بأسلوب إجرامي ووحشي تخطى معه عدد الضحايا 21.000 شهيد و60.000 جريح وما زالت الحرب مستمرة.
وبدخول «حزب الله» على الجبهة اللبنانية في الحرب، استطاعت إسرائيل جرّ أميركا إلى داخل المعركة لتحضر آلاف جنودها إلى تل أبيب وعشرات الآلاف من الذخائر لتدمير ثلثي مباني شمال غزة وثلث مباني خان يونس الجنوبية، والدمار مستمر.
كذلك أحضرت أميركا أسطولها البحري إلى البحر الأبيض المتوسط لثني حلفاء المقاومة الفلسطينية في اليمن والعراق وسورية ولبنان عن توسيع الجبهات.
إلا ان مشاركة «حزب الله» لم تُثْنِ عزيمة إسرائيل عن تخفيف الضغط على جبهة غزة، بل تعاملتْ مع جبهة لبنان بقوة، وقتلت أكثر من 100 مقاتل ومدني وصحافي وأمعنت في تدميرٍ قياسي للقرى الحدودية، حتى ولو التزمت بحدود الخمسة كيلومترات عمقاً التي حددتْها الجبهة وفَرَضَها «حزب الله» على إسرائيل لغاية الآن.
علماً أن الحزب حرص على عدم تشتيت انتباه العالم عن القضية الفلسطينية ليعلن منذ اليوم الأول ان شهداءه سقطوا من أجل فلسطين فقط وعلى طريق القدس، وان جبهته هي للمسانَدة لا غير لتبقى غزة هي المحور الرئيسي.
ودخلت أميركا وحلفاؤها على خط تسيير مُسيَّرات مسلحة ومتطورة مثل MQ-9 Reaper التي استُخدمت لقتل اللواء قاسم سليماني وابومهدي المهندس في بغداد.
وهاجمتْ قوات المقاومة العراقية، القواعد الأميركية في العراق أكثر من 100 مرة من دون أن يدفع ذلك أميركا للضغط على إسرائيل ولا لفرض وقوف إطلاق النار حتى ولو توسّعت جبهة القتال.
وفي اليمن، أرسل الحوثيون المسيَّرات والصواريخ نحو إسرائيل لدعم فلسطين، بعدما أبلغوا الدول الممتدة على طول البحر الأحمر بأهدافهم «غير العدوانية» تجاهها بسبب المسافة التي تفصل اليمن عن أهداف إسرائيلية. فما كان إلا ان تدخلت السفن الحربية الفرنسية والأميركية والبريطانية لإسقاط المسيَّرات والصواريخ خدمةً لإسرائيل التي أزعجها الحوثي بسبب استهدافه لمدينة إيلات الواقعة على البحر الأحمر والتي تضم عشرات الآلاف من المستوطنين المهجرين من جبهتي لبنان وغزة.
إلا ان اليمن رَفَعَ مستوى التهديد، فأغلق البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية والبضائع المتجهة إلى ميناءي أشدود وحيفا. فما كان من أميركا إلا ان هبّت لمساعدة إسرائيل وإحضار سفن عدة للمنطقة البحرية بعد تشكيلها حلف «حارس الازدهار» من 12 دولة بقيادتها، لكي لا تُظْهِرَ نفسها الدرع الوحيدة لإسرائيل وتعمل من أجل حمايتها على حساب سمعتها ومن جيوب دافعي الضرائب الأميركية والأوروبية بسبب مشاركة هؤلاء في دعم مجهود إسرائيل الحربي.
ويبدو ان أهداف هذا التحالف لا تنص على الاشتباك مع الحوثيين لغاية الآن، لان أميركا لا تريد فتْح حرب على نفسها وهي تخوض حرب الانتخابات الرئاسية، خصوصاً ان مستوى رد فعل حلفاء المقاومة الفلسطينية غير واضح لها ولا تعلم إلى أي مدى سيبلغ التصعيد الذي يستعد له هؤلاء.
وبتصريح نتنياهو انه «لن يرضى بحماسيستان ولا بفتحسيستان في غزة»، فهذا يعني انه مستمرّ بالدمار ولا يُظْهِر أي نية للتوقف مهما تعددت الجبهات. واستخدمت المقاومة الفلسطينية ورقة التفاوض لإطلاق سراح المدنيين من الطرفين لتتوقف الحرب بضعة أيام وتفرض دخول المساعدات إلى غزة التي، على الرغم من الكمية الضئيلة جداً التي تصل إلى القطاع المحاصَر، حققت هدفها بعدما كانت إسرائيل تمنع دخول الغذاء والدواء والمياه والمساعدات الدولية في أسابيع الحرب الأولى.
واستخدمت المقاومة ورقةَ الإعلام الحربي لتُظْهِر خسائر إسرائيل العسكرية، من دون أن يؤثر ذلك على مسار المعركة، فأخرجت ورقة إظهار الأسرى العسكريين السابقين يناشدون بإطلاق سراحهم وكذلك أسرى من لواء الجولاني أحياء قبل أن تقتلهم القذائف الاسرائيلية، لتضغط أكثرعلى نتنياهو، فنجحت بإزعاجه من دون وقفه.
إذاً، لا بد من اتخاذ مواقف أخرى مستقبلية أكثر تشدداً، لأن إنهاء غزة ودمارها والقضاء على وجود سكانها - إذا فُتحت أبواب الحدود لحاملي الجنسيات والإقامات الأجنبية أو العربية أو مَن لديه أقارب في الخارج أو للترانزيت للخروج إلى دول أخرى - سيفرغ غزة من أكثر من نصف سكانها.
ولذلك، رَفَعَ «حزب الله» وتيرة المواجهات الحدودية باستخدامه أسلحة جديدة لا تستطيع أجهزة الرادار كشْفها ولا تعترضها «القبة الحديد» الإسرائيلية. واستخدم صواريخ مضادة للطائرات ومسيَّرات إنتحارية من نوع «شاهد 136» معدَّلة بكمية متفجرات أكبر وضربَ مستعمرات عدة ووصل إلى كريات شمونة وكذلك استخدم صواريخ ليزرية موجَّهة ذات مدى بعيد يصل إلى 8 كيلومترات للمرة الأولى لضرب أهداف بعيدة.
وهذا من شأنه دفْع إسرائيل لتدمير قرى لبنانية جنوبية ضمن حدود الاشتباك. إلا ان هذه الخطوة لم تغيّر مسار أهداف إسرائيل وقصْفها وتلغيم منازل وعمارات غزة شمالاً وجنوباً.
وتستعد المقاومة العراقية لتوسيع الهجمات والجبهات تدريجاً لتشكيل ضغط على شريكة إسرائيل الرئيسية من خلال رفْع مستوى التصعيد ومهاجمة منصات غاز إسرائيلية عائمة في البحر الأبيض المتوسط.
وتبقى الخطوات المستقبلية التي لا بد أن تظهر في القريب العاجل إذا كان الميدان الفلسطيني يحتاج إليها. فلغاية اليوم، ما زالت المقاومة تقصف مدينة تل أبيب برشقات صاروخية، وتنهمر عشرات الصواريخ على وسط وجنوب الكيان الصهيوني على الرغم من وجود عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين في غزة.
وتستمر المقاومة بضرب أهداف لهذا الجيش الغازي الذي أصبح على مسافة قريبة داخل المدن ولم تعد الطائرات والبوارج والمدفعية تعمل بأريحيتها المعتادة.
ولكن إسرائيل مستمرة بجرف مناطق شمالية لتوجِد منطقة عازلة أولية، في ظل امتعاضٍ دولي متزايد من موقف أميركا في الأمم المتحدة باستخدامها حق النقض وتطيير الجلسات المتعلقة بوقف إطلاق النار في غزة وتوقف الأعمال الحربية.
ولا تتزحزح واشنطن عن دعمها لإسرائيل لرغم عزلتها الدولية وخسارتها لمكانتها التي عملت على بنائها لمدة 75 عاماً بعد الحرب العالمية الثانية. فلربما يلجأ حلفاء المقاومة الفلسطينية لرفع الضغط على أميركا في العراق، حيث التزمت المقاومة بضبط الإيقاع لغاية اليوم وهي مستعدة لرفع مستوى المواجهة لإحراج الولايات المتحدة التي تملك القدرة على وقف إسرائيل إذا رغبت بذلك.
إذاً، بحال نجحت أميركا بمنْع توسع الجبهة - وهذا يتطلب ضبط نفس جباراً - فإنها لن تمنع خطوات تصعيدية لا بد ان تترجم قريباً. فالمقاومة لم تُخْرِج كل أوراقها وخياراتها وما زالت مفتوحة ومتدحرجة ولا بد ان تظهر كلما اشتدّ الضغط على غزة.
ويبدو أن المفاجآت ما زالت في جعبة جميع حلفاء غزة التي لن تُترك لوحدها كي يُقضى عليها.