نجم عبدالكريم... قصة مواطن يبحث عن مواطَنة

تصغير
تكبير

لم تجمعني علاقة شخصية مع الدكتور نجم عبدالكريم، بكل أسف، غير لقاء يتيم في ولاية جورجيا أثناء فعاليات «كويت حرة» إِبَّانُ الغزو الغاشم، ولكني تابعت خلال الأيام الماضية جميع الحلقات التي أجريت له في برنامج الصندوق الأسود قبل أربع سنوات، فخرجت بعدها كظيماً من شدة لذع سردياته لوقائع تحاكي واقعاً أليماً.
في بداية حديثه شرح الدكتور نجم، ظروف طفولته وعمله الشاق، حيث بدأ بأعمال يدوية ومنها كحَمّالٍ في السوق.

ثم انتقل إلى شراهةٍ بالتعلم ومواكبة الثقافة في حقبة الخمسينات، معرجاً على خبرته في مصر كطالب للعلوم المسرحية والفنية وفي الوقت نفسه عاملاً كمذيع لإذاعة الكويت حيث يؤدي برامج ثقافية وفنية عبر مقابلاته مع عمالقة الفن والأدب مثل طه حسين ومحمود شاكر، الذي رفض مقابلته في بداية الأمر بسبب أحد أفراد السفارة الكويتية الذي قال له: إن هذا شيعي، والأديب محمود شاكر، كان معروفاً بتوجهاته الإسلامية، ولكنه في النهاية قبل عن مضض!
لقد ساق لنا الدكتور نجم، نماذج من الغيرة والحسد والعنصرية لدى بعض المسؤولين الذين استهدفوه لكثرة إنجازاته الإعلامية والأدبية، فبدلاً من أن يسعى هؤلاء للدخول لحلبة التنافس معه لجأوا للضرب تحت وفوق الحزام والقدح في أصله ووطنيته!
يذكر في سياق حديثه، أنه عندما انتقل للعمل في التلفزيون قسم الإنتاج السينمائي كرئيسٍ للقسم وبدأ إجراءات التطوير تحركت الشللية ضده، واشتكى عليه بعض الموظفين والمبرر أنه ليس كويتياً أصيلاً، والغريب أن معظم الذين اشتكوا عليه لم يكونوا كويتيين، ولكن يبدو بأن أي مواطن من أصل عراقي في تلك الفترة كان يسهل استهدافه بسبب مشاكل العراق مع الكويت!
إبّان الغزو العراقي الآثم على الكويت كان يقف في حديقة الهايد بارك في لندن ويخطب لتحرير الكويت، ويهاجم النظام العراقي ويبين حق بلده في تقرير مصيره شارحاً مآسي الاحتلال، وإذا بشخص كويتي يقول للناس «ما عليكم منه هذا عراقي»، فنهره حينها السيد مبارك الحساوي، رحمه الله. كما يدلل على ذلك فيقول عند زيارته للكويت أخيراً أنه كان جالساً في أحد الدواوين وإذا بأحدهم يوجّه له سؤالاً «ممكن تقول لنا أخ نجم أنت متى أخذت الجنسية»؟!
في الدقيقة الخامسة تقريباً من الجزء الثالث يروي نجم عبدالكريم، قصة في غاية الأهمية مفادها بأنه استُدعي لجهاز أمن الدولة للتحقيق لصلته بالأستاذ المرحوم ناصر الفرج، حيث كان لديهما بعض الأفكار العروبية والوطنية، وقد طلب منه المسؤول حينها أن يكتب تقارير، أي يتجسس، عما يقوله ناصر وأخوه الفنان سعد الفرج، وعندما رفض تم توجيه السباب له ونعته بالعراقي وبقية المفردات التي يعف القلم عن ذكرها، علاوة على تعييره بأنه قد تم إعطاؤه الجنسية والتفضل عليه بكذا وكذا، ومن ثم تمّ الزج به بالسجن ثلاثة أيام إلى أن تدخّل المرحوم محمد السنعوسي ليفرج عنه.
يقول الدكتور نجم عن تلك الحادثة بأنها شكلت له منعطفاً وجدانياً كبيراً إلى درجة تمنِّيه الانتحار لولا رعايته لأسرته وأبنائه! ويستطرد بالقول إنه على الرغم من خدماته الإعلامية ضد عبدالكريم قاسم، في الإذاعة والتلفزيون والذي حكم عليه بالإعدام بالعراق وتصديه لصدام حسين، وحزب البعث لكن بعضهم من النرجسيين والمتعصبين لا يحتسبها له، بل ويستصغره بسبب انتمائه لطائفة ما أو لأن أصله من بلد آخر.
ورغم «استضافته» المتكررة في جهاز أمن الدولة يذكر بأن هذه الأحداث قد طواها الزمن بالنسبة له، ولكنه يذكرها للتاريخ ولربما حدثت لآخرين فيجب ألا تتكرر في بلد الديموقراطية.
يؤكد في ثنايا حديثه أنّ هذه الأمثلة التي ضربها لا تشكل طبيعة الكويت والكويتيين الجميلة، ولكنها في الحقيقة تجسد نفسية مريضة لسيكولوجية العنصرية التي تنبت بين أحشاء البعض، وقد تظهر أحياناً بعنفوانها وقت قوته وفرصته وتخفت أحياناً أخرى لأسباب تتصل «بالتورية السياسية»! والخطورة هي أن يتم تمكين هؤلاء البعض من زمام المسؤولية ليصنعوا بممارستهم تلك انطباعاً عاماً وجب على الدولة مكافحته لأن سكوت الحكومة عن هكذا سلوك يعني أنها تقوم برعايته.
إن أغرب ما حكاه النجم نجم عبدالكريم، هي قصة منعه من دخول الكويت بعدما انتهى من ندوة كان مدعواً إليها في إحدى الدول الخليجية وموضوعها السينما والتلفزيون.
يقول إنّه تفاجأ عند وصوله بالمطار أنَّه ممنوعٌ من أن يدخل إلى بلده، وعليه أن يتوجه إلى أي بلد آخر! لم يكن لديه مال ليشتري به تذكرة ولم يسمح له بإجراء أي مكالمة فباع ساعته الرولكس بالمطار واشترى بها تذكرة للبحرين ومنها طلب المساعدة من أحد أصدقائه ليحط رحاله بعدها في عاصمة الضباب، والضبابية تغطي بصره، ولكنها لم تستطع أن تحجب الرؤية عن بصيرة عقله المكافح والمستنير إلى هداه نحو سبيل جديد يخرجه من عتمة الضنك إلى فسحة الأمل.
ولأنه مزود بالطاقة العصامية الذاتية اقتحم الإعلام بقلمه البتّار ليقطع زوايا الصحافة والمجلات العربية إلى أن احتضنته دوائر الإعلام السعودية التي أيقنت أَيْقُونيَّته كفنان مكين، وأديب لبق وإعلامي لامع، يعرف كيف يصيغ الخبر، ويلهو مع القلم، ويسامر الكاميرا، ويشعل الفكر؛ فسطع نجمه، وارتفع؛ فطار إلى الأفق ولم يقع.
رغم تلك الجراحات والآلام التي سببها هذا الاضطهاد العرقي والتعصبي ضد هذا الرجل الفذّ، والذي جعله يبتعد عن بلده لأكثر من أربعين عاماً متغرباً في بلاد الفرنجة، إلا انه قد انتهى به المطاف ليزور الكويت عزيزاً من لدن أكثر الناس شأناً ويُدعى ضيفاً كريما في مجالس الوجهاء والمثقفين والمحترمين.
بعدما طاف الزمن وطال بهذا الرجل المبدع، ازدادت شكيمته وتقدم من كان يهينه بالجهاز الأمني ليعتذر إليه قائلا: «اعذرني يا ولدي ترى ظلمناك كثيراً»، أما الذين استضعفوه واستصغروه فلا محل لهم ولا مكان في ذاكرة الوطن.
أثناء المقابلة الطويلة ترورقت عيناه مرتين، الأولى: عند تذكره وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، والثانية: عندما تذكر وقفته بالبنك في بريطانيا وهو ينتظر وبعض الكويتيين تسلّم معاشاتهم أثناء الاحتلال متأسياً على ما وصل إليه حال الكويتيين حينها.
إن المواطن نجم عبدالكريم، إنسان شريف وعصامي شق طريقه للإبداع، لقد كان مواطناً متمرداً على النفس الأمّارة بالسوء، جازماً على تأكيد نفسه المطمئنة، فلم يرض بأن يكون في مكانه متجمداً ببرودة نقص الذات دون مكابدة عناء الصعود، ولم يركن للآخرين ولا الفئوية أو الطائفية أو الحزبية أو الزبائنية لكي يبلغ أهدافه وطموحاته، بل اعتمد على عقله الشغوف بالشيء المختلف الذي مكّنه دائماً من القفز خارج الصناديق الصغيرة متجرداً من الأحكام المسبقة والقوالب المغفلة، متحرراً من قيود الخوف لمعاشه اليومي، لذا استطاع أن يبحر لوحده من بحيرةٍ صغيرةٍ راغدةٍ كان يمكن أن يعيش فيها قابلاً للغبن ولكنه رفض وانطلق إلى محيطٍ أوسعٍ، خاض فيها معركة البقاء للأصلح والأكفأ مرفوع الرأس حتى بلغ عقده الثامن وهو يروي ببلاغته ووجدانيته العفوية حكاية مواطن يبحث عن مواطنة كريمة وليس وطناً يأكل منه وينام فيه فحسب. شكراً لك دكتور نجم فأنت فعلاً مُلهم.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي