هل ينجح نتنياهو بتدمير شمال غزة وجعْله منطقة عازلة؟
مركبات عسكرية إسرائيلية مُدمّرة شمال غزة أمس (رويترز)
هناك فارق شاسع بين وضْع الخطط العسكرية وسهولة تنفيذها على أرض الواقع أو استحالة تطبيقها مع ما يعترضها من عقبات عدة.
ومن الواضح أن خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضرْب غزة أصبحت أكثر وضوحاً، من دون أن يعني ذلك سهولة تطبيقها للمستقبل البعيد بفعل عوامل عدة.
ويبدو أن خطة إسرائيل لم تنجح لغاية اليوم، إذ فشلتْ الأهدافُ الرئيسية المتمثلة في احتلال غزة واستئصال حركة «حماس».
فلم يُظْهِرْ جيشُ الاحتلال أي عنصرٍ من «حماس» يستسلم لقواته، ولم يَقتل الآلاف الذين هاجموا المستوطنات المحتلة في السابع من أكتوبر الماضي، ولم يتمكن من احتلال الجزء الأصغر من القطاع رغم زجّ آلاف المشاة مدعومين بنحو 300 دبابة وتحت غطاء مدفعي ودعمٍ من البوارج البحرية وسلاح الجوّ بعد عمليات تدميرية مُمَنْهَجة ومعركة ضد المستشفيات وتدمير البنية التحتية وقتْل أكثر من 11 ألفاً من المدنيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وبعد مرور أسابيع من اجتياحه للجزء الشمالي من القطاع.
وهذا لا يعني أن تعداد قواته الكبير لن يمكّنه من احتلال بقعة العمليات. إلا أن إسرائيل ستضطر لتغيير أهدافها لتتجه نحو هدفٍ يمكن تحقيقه.
وقد أعلن البيت الأبيض مراراً، وفق ما أكده أيضاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنفسه، أنه «لن يكون هناك نزوح قسري من غزة الآن أو بعد الحرب، ولن تتم محاصرة غزة من البر أو البحر، ولن يتم احتلال القطاع وان الوضع القائم بسيطرة حماس لن يبقى كما هو ويجب أن يصبح الحُكْم في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت قيادة واحدة».
إلا أن ما قاله رأس الديبلوماسية الأميركية مُخالِف تماماً للواقع. فقد أعلنت واشنطن عن ممر إنساني كانت إسرائيل تحدثت عنه سابقاً لدفْع جميع سكان شمال غزة للنزوح القسري.
ويُعَدُّ هذا التدبير تطهيراً عرقياً في نظر القانون الدولي، خصوصاً أن جيش الاحتلال غير مسموح له بالطلب من السكان في الجهة الشمالية مغادرتها بسبب العمليات العسكرية وانعدام الأمن فيها بينما يقصف المناطق الجنوبية التي يطلب من سكان الشمال اللجوء إليها.
إضافة إلى ذلك، ما زالتْ إسرائيل تقطع المياه والكهرباء والفيول والدواء عن كامل القطاع، وهذا ما يُعد جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وتالياً فإنّ الإدعاء الأميركي - الإسرائيلي باطل ولا يمت إلى القوانين الدولية وقوانين الحرب التي تمنع أي استهداف مباشر للمدنيين وتجويعهم وحرمانهم أبسط مقومات الحياة.
أما الكلام عن انه لن تتم محاصرة غزة، فإنّ الأمم المتحدة، ومنذ أعوام، تعتبر القطاع والضفة محاصرتان من البحر والجو والبر.
وتالياً فهي تصنِّف، قبل الحرب الدائرة حالياً، الجيش الإسرائيلي بقوة احتلال.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الحصار على القطاع وقصفه المتواصل ومنْع إدخال أي دعم إنساني من دون موافقة إسرائيل منذ 37 يوماً، يجعل إدعاء بلينكن باطلاً.
وفي ما خص عدم إحتلال غزة، فإن الآلاف من الجنود والدبابات موجودون داخل شمال القطاع في مسرح عمليات ساخن وتحتل اسرائيل جزءاً منه من محاور عدة.
ومن ناحية أخرى، ثمة من يَعتقد أن أهل غزة، مثل أهل الضفة الغربية، لن يقبلوا بالرئيس محمود عباس رئيساً عليهم ليَحكمهم، كما اقترح المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون.
أما نتنياهو، فقد أعلن عن أهدافه باحتلال كامل القطاع وهزيمة «حماس» وإخراجها من غزة بعد القضاء عليها أو على بنيتها التحتية.
إلا انه لم يحصل لغاية اليوم ان استسلمت الحركة للقوات المحتلة، ولم تستطع إسرائيل إطلاق سراح أي من المحتجزين الـ240.
بل أكثر من ذلك، فإن جيش الاحتلال يفجر أي مدخل لنفق يكتشفه من دون إدخال قوات مشاة الاحتلال لاستكشافه، لِما يمكن أن يحمله دخول النفق من مخاطر الاشتباك أو التفخيخ أو الكمائن نظراً للشبكة المعقّدة الموجودة تحت أرض غزة والتي بنتْها المقاومة على مر الأعوام.
وبتفجير مَداخل الأنفاق، يقضي نتنياهو على أمل إيجاد بعض المخطوفين أحياء، ما سيضعه أمام عاصفة من الاحتجاجات داخل المجتمع الصهيوني.
وتالياً، يبقى لرئيس الوزراء هدف واحد أمامه، وهو تهجير جميع سكان شمال غزة إلى الجنوب ليبقى هذا الشطر خالياً من السكان ويشكل منصة عازلة تفصل المستوطنات خارج الغلاف عن جنوب غزة بعد تحويلها منطقة عسكرية خالية من السكان.
وهذا هو هدف «الممر الإنساني» و«الهدنة الإنسانية» التي روّج لها الأميركي والإسرائيلي لأيام تحت عنوان تخفيف الخسائر بين المدنيين، بينما الحقيقة تهدف إلى تطهير عرقي وتدمير المباني والمخيمات وترهيب المدنيين لإخراج مَن تبقى منهم إلى جنوب غزة.
لكن خطة نتنياهو وبلينكن تعترضها عقبات جمة: أولاً يقطن في شمال غزة نحو 1.4 مليون نسمة خرج أكثر من نصفهم وبقي النصف الآخَر داخل المنطقة.
ومن المتوقَّع أن يخرج عدد أكبر عند انتهاء العمليات العسكرية مع بقاء عدد آخَر لا يرغب في الخروج كما يحصل عادة في مناطق الحروب.
ثانياً، يتعثّر تقدُّم قوات المشاة والمدرعات داخل المدينة.
فقد ظهّر التدميرُ الممنهج للأبنية والأحياء المدنية خطةَ إسرائيل في تحويل شمال غزة منطقة مدمرة لا يمكن البقاء فيها ولا تتوافر سبل العيش على أرضها بعد محو بنيتها التحتية.
إلا أن التدمير يعوق تقدّم المشاة الإسرائيليين بعدما تحوّل الركام أفخاخاً تستخدمها المقاومة الفلسطينية التي لم تتوقف يوماً عن توجيه ضربات لدبابات العدو ومشاته، وهو الذي اعترف بخسارة 44 ضابطاً وجندياً في مناطق الاشتباك.
هذه العمليات البطولية للمقاومة بإمكاناتها المتواضعة تعوق إنهاء المعركة بالسرعة التي تمنّاها الإسرائيليون في ساحة حرب صغيرة جداً حدودها 6 كيلومترات عرض و13 كيلومتراً طول، وكان من المفترض بأي قوة عسكرية تملك قدرات إسرائيل أن تحتلها خلال أيام لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
بينما انغمس جيش الاحتلال داخل المدينة المحاصَرة بقصف المستشفيات ومحيطها وترويع السكان الذين لا مكان لهم للاختباء من القصف الهمجي وذلك لتحقيق هدف التهجير القسري عندما تتوقّف المعركة.
إذاً، إنّها مسألة أيام قليلة قبل سقوط المساحة الصغيرة التي تشكّل مسرح عملياتِ جيش الاحتلال شمال غزة قبل أن يتّضح إذا كانت للمقاومة القدرة على ضرب العدو أثناء وجوده، أو إشغاله على جبهات متعددة لإفشال أهدافه أو إجباره على توسيعها.
وهي أيام قليلة باقية قبل انكشاف حقيقة الأهداف الأميركية - الإسرائيلية بتدمير الجزء الشمالي لغزة لإيجاد المنطقة العازلة المطلوبة.
إلا أن هذا الهدف، إذا اكتفتْ إسرائيل به، لن يطلق سراح المحتجَزين الإسرائيليين ولن يقضي على «حماس».
وتالياً فإن تحقيق نصر ناقص لرئيس الوزراء الإسرائيلي لن يخلّصه من الحساب الذي يتحضّر له الإسرائيليون لاقتلاع نتنياهو من منصبه ومحاسبته على الفشل والانكسار الإستراتيجي الذي أصاب إسرائيل يوم السابع من أكتوبر وكَسَرَ هيبتها وصورة «الجيش الذي لا يُقهر» والذي يحتاج إلى قوات دولة عظمى لتحميه وتساعده في غزة وعلى الحدود مع لبنان.
فهل تنجح إسرائيل في تنفيذ مآربها أو تدخل قضية عودة النازحين إلى شمال غزة ضمن صفقة تَبادُل الرهان والسجناء لتعود إسرائيل إلى نقطة الصفر؟ الأيام والأسابيع المقبلة ستحمل الجواب الشافي.