غزة تكشف الغطاء عن فقدان أوروبا... لقِيَمها ودعْمها المطلق لإسرائيل
مقاتلة إسرائيلية من طراز «إف - 15» تحلق بالقرب من الحدود مع غزة أمس (أ ف ب)
- غولدا مائير كانت تحمل جواز السفر الفلسطيني بين عامي 1921 و1948
في ديسمبر 2001، وخلال حفل عشاء أقامه مالك صحيفة «ديلي تلغراف» في العاصمة البريطانية، قال السفير الفرنسي في لندن دانيال برنارد، ان «تلك الدولة الصغيرة القذرة إسرائيل تقف خلف مشاكل الشرق الأوسط».
حينها قامت الدنيا ولم تقعد مطالبة برأس الديبلوماسي الفرنسي الذي كان يخدم تحت رئاسة جاك شيراك، صديق فلسطين، وأراد التعبير عن واقع المنطقة غير المستقرة.
لكن اليوم في فرنسا، تغيّرت الأمور، خصوصاً تحت رئاسة ايمانويل ماكرون الذي عمل تحت وصاية عائلة روتشيلد اليهودية التي كانت خلف «وعد بلفور» للعلاقة الوطيدة بين اللوردين بلفور وروتشيلد، اللذين دعما الصهيونية العالمية لتحتل أرض فلسطين.
ويؤكد أداء فرنسا وأوروبا في شكل عام تجاه ما يحصل في قطاع غزة، المؤكدَ لجهة ان أوروبا فقدت قِيَمها وأدارت ظهرها لمبدأ دولة القانون والعدالة الذي تغنّت به وادعت انها تتمسك به لعقود طويلة.
منذ القرن الرابع عشر، اعتبرتْ دول أوروبية عدة، منها فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا وايطاليا، ان اليهود هم «دون مستوى البشر ومسؤولون عن جميع الأمراض المميتة ويمارسون السحر الأسود» في ظل أوروبا مسيحية متديّنة.
وفُرض على اليهود وضْع إشارة على كتفهم أو قبعة بلون مميز، وأُجبروا على العيش في كنتونات محدّدة لا يخرجون منها بعد غروب الشمس وحتى طلوعها.
وأتت الحرب العالمية الثانية، التي تغاضت دول أوروبية عدة خلالها عن قتْل اليهود وشاركت بالمجزرة ضدهم وباصطيادهم وإرسالهم إلى المحرقة المعروفة بـ «الهولوكوست: بعد سرقة جميع أموالهم وممتلكاتهم».
وللتعويض عن ذلك والتأكد من عدم مطالبة اليهود بما سرقه الأوروبيون بعدما سُلبت إرادتهم، أُرسلوا إلى«أرضهم الموعودة» ليتخلّص منهم الجميع ويشغلونهم ببناء دولة على حساب الفلسطينيين.
هكذا اعترف العالمُ بما يُعرف اليوم بدولة اليهود، إسرائيل، رغم وقوف أعداد كبيرة من اليهود ضدّ الصهيونية العالمية التي يفاخر الرئيس الأميركي جو بايدن، علناً بتأييده لها، ويعتبرون ان فلسطين كانت قائمة منذ عهد الكنعانيين بسكانها العرب وليس اليهود. وكانت رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير، تؤكد انها كانت تحمل جواز السفر الفلسطيني منذ عام 1921 حتى 1948.
ومنذ ان قامت منظمة التحرير الفلسطينية والكفاح المسلّح لتحرير الأرض المغصوبة، توصلت أميركا لاتفاق سلام يعطي الدولة الفلسطينية حصتها في أرض فلسطين وكذلك الشيء نفسه لإسرائيل.
إلا ان رئيس الوزراء آنذاك، إسحق رابين، اغتيل من إسرائيليين متطرفين لرفضهم اتفاق السلام الذي فشلت أميركا في تطبيقه ورفضت إسرائيل الالتزام به إلى أن أعلن بنيامين نتنياهو وفاة «اتفاق أوسلو»وانه، في حديث مسرَّب داخل منزله، يعطي «الفلسطينيين اثنين في المئة من أرض فلسطين فقط موقتاً (فهذا) أفضل من 100 في المئة (من أرضهم)».
ليست إسرائيل وحدها مسؤولةً عما يحصل في فلسطين من قتْل وتشريد ودمار وتنكيل وسجن تعسفي والضرب بعرض الحائط المقررات الأممية وحقوق الإنسان. بل ان المجموعة الأوروبية والغربية هي المسؤولة عن دعم نظام عنصري قَتَلَ وارتكب المجازر منذ 73 عاماً وهم الذين يوفرون له الغطاء والمال والأسلحة ليزيد من غطرسته.
وما يبثه الإعلام الأوروبي يدعو للدهشة: بالنسبة للاعلام الأوروبي لا شيء يحدث في غزة، إذ تُبث فقط الأضرار المادية والنفسية وأعداد القتلى الإسرائيليين لاستعطاف الناس وإيجاد حالة دعم شعبي لإسرائيل التي فؤجئ أبناؤها بالهجوم يوم السابع من أكتوبر بينما هم يحتفلون.
وعند حصول مجزرة مستشفى المعمداني في غزة، حيث استشهد 500 شخص بينهم المرضى والمصابون وعائلات اعتقدت ان القانون الدولي يحمي المستشفيات، بث الإعلام الأوروبي ان «خلاف الأخوة بين حماس والجهاد الإسلامي»خلف خطأ من «الجهاد» (القريبة من إيران) بقصفٍ أصاب المستشفى.
فالرأي العام لا يعلم انه لو امتلكت«حماس»أو«الجهاد»، قنابل ذكية تحمل نصف طن من المتفجّرات تكفي لتدمير المدن الإسرائيلية، لَأجبرت حكومة إسرائيل على توقيع معاهدة سلام خلال ساعات، بل على الهروب من جميع الأراضي الفلسطينية.
ولا يدري الرأي العام نفسه ان كل يوم ترتكب إسرائيل عشرات المجازر وانها قتلت منذ 7 اكتوبر أكثر من 3800 شخص بينهم 1500 طفل و1000 امرأة و200 مسن، فيما مئات الجثث مازالت تحت الركام وان هناك 13.000 جريح، وان إسرائيل دمّرت مستشفى وأخرجت 4 عن الخدمة وتضرّرت 24 مستشفى أخرى، وان السكان في غزة يعيشون دون ماء ولا دواء ولا كهرباء، وان خمسة مخابز قُصفت وان الاحتلال يضرب حتى الضفة الغربية التي يترأسها محمود عباس والتي قتل فيها أكثر من 73 فلسطينياً منذ 13 يوماً وان الشعب الفلسطيني يُقتل يومياً من دون ان تلتفت له المجموعة الدولية خوفاً من رد فعل إسرائيل التي تسخر الإعلام العالمي لخدمتها ولتغطية جرائمها وتهديد مَن لا يؤيدها.
وفي بعض الدول الأوروبية، تستدعي الشرطة مَن يقف مع فلسطين، إذ يسخّر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، بأمر من رئيسة الوزراء اليهودية الأب اليزابيت بورنشتاين (غيّرت اسمها إلى بورن)، 10 آلاف شرطي لحماية 500 مركز يهودي من أموال الشعب الفرنسي لإدراك الحكومة حجم الظلم الذي تتغاضى عنه وكثمنِ ولائها لإسرائيل. وترهب بريطانيا مَن يشهر دعمه لفلسطين أو يدين المجازر الاسرائيلية.
لم يبلغ التعتيم الإعلامي الغربي وإغلاق مواقع التواصل الاجتماعي لمَن لا يقف مع إسرائيل هذا المستوى في تاريخ أوروبا. ولكن وسط هذه الظلمات، تخرج أنوار خافتة من إسبانيا، حيث طالبت وزيرة حقوق الإنسان الإسبانية ايون بيلارا بمحاسبة نتنياهو وجره أمام محكمة مجرمي الحرب وقطع العلاقات مع إسرائيل.
كذلك تردّ النائبة الأوروبية الإيرلندية كلير دالي لتقول لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلايين، التي تكلمت باسم أوروبا حين أعلنت دعم القارة لإسرائيل انها«لا تتكلم باسم أوروبا ولا باسم إيرلندا ولا يحقّ لها - وهي غير المنتخَبة بل المعيَّنة - التكلمَ باسم الشعب الأوروبي لأن ذلك حكر على البرلمان ونحن لا ندعم جرائم إسرائيل».
خرجت أوروبا عن قِيَمها وفقدتْها وأعمت حرية الرأي وأخفت الحقائق لتصبح مثل اي دولة بوليسية شبه ديكتاتورية.
ولا عجب في ذلك لأن قارة أوروبا استعمرت أفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية وسرقت مواردها الطبيعية واستعبدت سكان القارة السمراء لعقود.
كذلك قامت الحربان العالميتان الأولى والثانية من أوروبا لخلافٍ حول تقسيم الموارد الطبيعية. وكذلك دفعت الولايات المتحدة، الدولة الأوكرانية للحرب وشاركت معها أوروبا، لتسيل على مدار مئة سنة دماء الملايين من الاوروبيين.
إنه ماضٍ حافل بالقتل والدمار، وتالياً فإن دعمَ الجلّاد ضد السجين والسكوت عن قتل الفلسطينيين ليس مستغرباً.
لكن الوقاحة هي في عدم إظهار الحقيقة كما هي في ظل اختفاء الموانع من خلال التكنولوجيا المتطوّرة التي توصل الأخبار بلحظتها للعالم أجمع. وهكذا فقدت أوروبا القِيَم التي تغنى بها قادتها على ألسنتهم دون الحاجة لتطبيقها على أنفسهم أولاً وقبِلوا بما تفعلها إسرائيل وبما يقوله قادتُها.
عندما شارك «الهوتو» في الإبادة الجماعية في رواندا، أطلق هؤلاء على قبيلة «التوتسي» لقب «الصراصير».
وخلال «الهولوكوست» أشار النازيون إلى اليهود بـ«الجرذان» ليعتبروا انهم«حيوانات دون البشر».
وها هم اليهود، على لسان وزير الدفاع يوآف غالانت وكذلك مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، يعتبرون الفلسطينيين «حيوانات دون البشر».
وتالياً فإن الغرب لم يعترض على هذه التسمية، ليُهدر دم الفلسطينيين رسمياً ويُمنح الغطاء لـ«إبادتهم جميعاً».
لذا لم يعد في الإمكان لوم إسرائيل وحدها على ما يحصل للفلسطينيين، لتبقى الكلمة الأخيرة في الأيام المقبلة لما سيخرج من ميدان المعركة بعد أن تجتاح إسرائيل قطاع غزة، أكبر معسكر اعتقال في الهواء الطلق منذ عام 2007.