لا ولاء لجنرالات السودان إلّا لمصالحهم الذاتية

دخان يغطي سماء الخرطوم جراء المعارك (أ ف ب)
دخان يغطي سماء الخرطوم جراء المعارك (أ ف ب)
تصغير
تكبير

يفضّل غالبية السودانيين اتهام قائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو «حميدتي» بأن قراراته نابعة من التدخلات الإقليمية، وأن قوته مستمَدّة من الخارج الذي يحرّك عجلةَ الحرب في السودان.

ويُتَّهَم الجنرال عبدالفتاح البرهان بأنه «ضعيف» ولا يريد إغضابَ الدول الإقليمية ومصالحها المتناقضة في السودان، وأن تعاظم نفوذ حميدتي داخل المؤسسة العسكرية وتململ رئيس الأركان محمد عثمان الحسيني من قوات الدعم السريع وضباط آخرين ينبع من قلة حزم قائد المؤسسة العسكرية وحاكم السودان الأول البرهان.

ولكن، كيف للقائد السابق للجيش ومفتّشه العام السابق الذي تَسَلَّم السلطة بعد الرئيس عمر البشير الذي خلعه المجلس العسكري ومن ثم قائد الانقلاب على رئيس الوزراء عبدالله حمدوك أن يكون ضعيفاً يُحرك من داخل المؤسسة العسكرية ولا قرار حازماً له؟ ألم يكن توزيع الأدوار بينه وبين أقرب الناس إليه، حميدتي، سيد الموقف؟ ألم تكن الصلاحيات التي أعطاها البرهان لحميدتي - كما كانت الحال منذ عهد البشير - هي التي أسالت لعاب قائد الرد السريع للحُكم ودفعتْه لمحاولة قلب النظام؟

ويَمضي المحللون بشرح أفعال حميدتي وعلاقته العنكبوتية مع إثيوبيا وروسيا وإسرائيل وأوروبا وأميركا، وهو الجنجويدي تاجر الإبل الذي يقود قوات تقتل وتنهب وتسرق مقدرات البلاد وتوسّع نقاط الانتشار إلى أن بلغت مستوى التمرّد على السلطة وتحدي الجيش الوطني وقائده الأعلى.

إلا أن هذا جزءاً من الحقيقة لأن تسلسل الأحداث ووصول حميدتي إلى مستوى شبه متساوٍ مع البرهان في السلطة يعود إلى حقيقة إدارة تَوزُّع الأدوار بين الرجلين على مدى الأعوام الماضية التي بدأت منذ دعم حميدتي للبرهان في الانقلاب على البشير وعلى حمدوك وتَقاسُم الأدوار في العلاقات الدولية.

لم يَعُدْ السودان يتّسع للجنرالين وطموحاتهما وسوء إدارتهما للسياسة الخارجية التي فتحت البلاد على مصرعيها للتدخلات الإقليمية والدولية لينصبّ تركيز مَن في السلطة على هدف أسمى وهو السيطرة الأحادية على السودان مهما كلف الأمر، ودفْع الثمن المناسب للخارج لأخذ السلطة بيده.

وقد اتفق الجنرالان المتحاربان على وقف نسبي لإطلاق النار من خلال ضغط خارجي نظراً لانعدام التواصل المباشر بين الطرفين واستحالة اللقاء لإنهاء الصراع على السلطة.

ومن المؤكد أن وقف إطلاق النار نتج عن اتصالات سعودية - إماراتية - بريطانية - أميركية - مصرية - أفريقية لسحب المواطنين الأجانب من مناطق الاشتباك بالدرجة الأولى والسماح لهم بالتوجه الآمِن نحو مناطق الإجلاء.

ومن الطبيعي أن يتجنّب طرفا النزاع مقتل المواطنين الأجانب لتفادي السخط أو التدخل الخارجي العسكري لمصلحة فريق على حساب آخَر، وخصوصاً بعد تهديدٍ مباشر أميركي باستخدام القوة إذا لم يُسمح للأميركيين بمغادرة العاصمة الخرطوم نظراً لاشتداد المعارك فيها، وكذلك من المناطق الساخنة الأخرى نحو نقاط تجمع الأجانب المغادرين، كلٌّ وفق التعليمات الصادرة عن دولهم. وتالياً فإنها هدنة موقتة غير دائمة وغير محدّدة النقاط في وقف الحرب بين الجنرالين اللذين توعّد كل منهما بإنهاء الطرف الآخَر مهما كلّف الأمر.

ويحاول العديد من المحللين العودة إلى أصل الخلاف الذي أوصل السودان إلى التصادم الدامي بين حلفاء الأمس، أملاً في إيجاد الخيوط المطابقة لِما يحصل اليوم. فمنذ الإطاحة بالرئيس البشير بعد موجةٍ من الاحتجاجات الواسعة على مدى أربعة أشهر في ولاياته الـ18، واجَهَ السودان نقطة تحول مهمة، تمثلت في إعطاء القيادة لعبدالفتاح البرهان ونائبه حميدتي من قبل القيادة العسكرية والأمنية التي ترأسها عوض بن عوف، وزير الدفاع، ونائب البشير الذي استقال من منصبه ومهامه مدير الاستخبارات السابق صلاح قوش.

وفي أغسطس عام 2020، عُيّن عبدالله حمدوك، الأمين التنفيذي بالإنابة للجنة الاقتصادية الأفريقية التابعة للأمم المتحدة، رئيساً للوزراء ليبدأ بإصلاح المؤسسة العسكرية واستبعاد العديد من الجنرالات وحلّ الأجهزة شبه الأمنية التي أنشأها البشير ومن ضمنهم تقليص دور حميدتي، خصوصاً بعد مسؤوليته عن مقتل المئات من المتظاهرين الذين دفعوا نحو استقالة البشير والقبض عليه بعد ثورة عام 2018 - 2019.

وفي المرحلة التي سبقت الانقلاب على البشير وما تبعه من الانقلاب على حمدوك، لم تُخْفِ المؤسسة العسكرية تَذَمُّرها من تَعاظُم نفوذ حميدتي وانتشار قواته في مفاصل البلاد المهمة، إلا أن البرهان حاول دائماً تقليل هذه المخاوف.

وربما يكون موقف البرهان نابعاً من عدم تضارب مصالح وأهداف الجنرالين بل هو توزيع للأدوار والاستفادة من حماسة حميدتي لبناء كيان لنفسه وتوسيع مروحة علاقاته الداخلية والخارجية بدرجةٍ تستطيع القيادة معها التنصل من التزاماته إذا رأت في وقت لاحق أنها تتضارب مع مصلحة البرهان. وقد اتبع الأسلوب نفسه البشير الذي كان دائماً يتنصل من أفعال الميليشيات التي أنشأها هو، سواء في دارفور أو ضد المتظاهرين المدنيين.

ويحاول عدد لا يُستهان به من السودانيين اتهام حميدتي بالتواطؤ مع أثيوبيا ضدّ مصلحة السودان ولمصلحة دول إقليمية أخرى بما يختص بمنطقة الفشقة السودانية الحدودية المتنازَع عليها منذ عام 1991 (وهي منطقة زراعية خصبة بطول 600 كيلومتر ومساحة مليوني فدان) واستعادة الخرطوم لـ90 في المئة منها بعد اندلاع اشتباكات تيغراي واستغلال الجيش بقيادة البرهان انشغال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالاضطرابات الداخلية.

ويَعتقد بعض المحللين أن البرهان وجّه ضربة لإثيوبيا ولحميدتي ودول كانت تسعى للاستفادة من الخلافات الإثيوبية – السودانية، ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون قد اتفق مع حميدتي على توزيع الأدوار، ولا سيما أن البرهان أيضاً يتمتع بعلاقات جيدة مع آبي أحمد ومع الدول الأخرى التي تتواصل مع الطرفين.

إلا أن ذلك لا ينفي أن التحركات التي كان يقوم بها حميدتي دفعتْه لمضاعفة طموحاته. ومن الطبيعي أن يطمح إلى السلطة - كما حصل مع ضباط الجيش السوداني طوال عقود ما دفعهم لمحاولات انقلاب فاشلة وأخرى ناجحة - معتقداً أن مقبوليته من دول في الجوار ومن الغرب وإسرائيل تخوّله تسلُّم السلطة إذا نجح في انتزاعها من البرهان.

وكما يبدو، فإن حميدتي كان يحاول نشر قواته على البحر الأحمر ويُظْهِرَ نفسه على أنه من الموالين لروسيا - التي زارها بتشجيع من البرهان نفسه - ليوحي بدور دولي، وليس فقط عشائري ينطلق من منطقة نفوذه الأكبر في ولاية دارفور التي تمثل خُمس مساحة السودان الضخمة (نحو 1.900.000 كيلومتر مربع)، حيث أقام تحالفات قبلية، وكذلك في إقليم كردفان.

ولم يُخْفِ حميدتي امتعاضه من عرقلة المؤسسة العسكرية لبسط نفوذه، إلى أن دُفعت إلى الأمام الوثيقة الدستورية التي تطلب من الجيش الابتعاد عن السياسة وتطلق عملية الإصلاح المدنية والعسكرية.

وقد وقّعت قوى «إعلان الحرية والتغيير» اتفاقية إطار بواسطة الأمم المتحدة وأميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات، لتشكيل دستور جديد وحكومة انتقالية وإعادة ترتيب السلطات في السودان.

ووقف حميدتي مع الاتفاق الإطار وطلب مهلة عشر سنوات - بما يتناقض مع دعوته للحرية واستلام سلطة مدنية لقيادة البلاد - لدمج قواته مع الجيش. بينما أصرّ البرهان على دمج قوات الرد السريع مع الجيش ليصار إلى قيادة موحّدة في مدة أقصاها سنتان.

وقبل يومين من بدء المعارك في 15 أبريل 2023، نبّهت قيادة القوات المسلّحة السودانية من أن قوات الدعم السريع - التابعة رسمياً للمؤسسة العسكرية - تعبئ قواتها وتدفع بأعداد ضخمة من العربات عسكرية في مناطق حساسة وإستراتيجية وفي محيط مراوي والقاعدة البحرية والمدينة الرياضية، وهي الأماكن نفسها التي شهدت الشرارة الأولى للاشتباكات التي أشعلت السودان.

لعقود ثلاثة، نُبذ السودان من المجموعة الغربية ووُضع على لائحة الإرهاب بعدما كان داعماً للقضية الفلسطينية وبعيداً عن أحضان أميركا. وتقلّبت التحالفات الداخلية السودانية من حُكْم الإسلاميين إلى حُكْمٍ يتقرّب من إسرائيل التي تقدّم نفسها كوسيط لتقريب وجهة النظر بين الجنرالين.

وأدّت علاقات السودان الجديدة مع إسرائيل إلى... لا شيء، سوى حرب جديدة من المحتمل أن تتدحرج إلى حرب أهلية وفقدان الخرطوم قرارها السيادي.

لقد سعى حميدتي للالتفاف على زميله وصديقه في الحروب وكذلك حليفه في إطاحة البشير ورئيس الوزراء حمدوك.

ووُصف قائد الرد السريع بأنه رجل إثيوبيا ورجل روسيا ورجل اسرائيل.

وما هو إلا تاجر للإبل يجهل معنى الديموقراطية وانقلب على صانعه البشير الذي اعتبره مثل ولده.

وها هو ينقلب على مَن تسلّم السلطة بعد البشير ليطلبها هو لنفسه.

وقد وصل إلى طعْم السلطة وإيرادات الذهب وتمتّع بالعلاقات الواسعة الإقليمية العربية والأفريقية وكذلك الدولية.

وهذه إحدى مخاطر توزيع الأدوار بين البرهان ونائبه حميدتي شريك الانقلابات، لأن البرهان تجاهل الغدر الآتي من الصديق الذي يعلم بالمضرّة وأماكنها أكثر من أي عدو.

وقد قبِل الرجلان بعد أكثر من أسبوعين من القتال بإرسال ممثلين عنهما للقاء في جدة (أو جوبا - جنوب السودان). وكلاهما مستعد لتحالفات عدة مع دول المنطقة أو دول الغرب إذا كانت تلك الوسيلة الناجعة لبقاء أحدهما في السلطة.

وعلى الرغم من الموافقة على اللقاء، يقول حميدتي إن البرهان لا يسيطر على قادته ويردّ البرهان – وكلٌّ عبر ممثلين لهما - بأن لا تَفاوُض مع الميليشيات إلا بإنهاء دورها ودمجها الفوري بالمؤسسة العسكرية.

إنه صراع طويل الأمد لن ينتهي إلا بهزيمة طرَف على آخر أو بتدمير السودان والبدء بصراع قبلي شرس مع خطر انتقاله إلى أجزاء من الـ 300 مليون أفريقي، انطلاقاً من السودان الذي يملك حدوداً مع سبع دول عربية وأفريقية، إذا لم تنجح الضغوط في وقف الحرب.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي