قانون خفض التضخم الأميركي «آخِر رصاصة» برأس الصناعة فيها

أوروبا تستمرّ... بالانتحار

تصغير
تكبير

كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر على حقّ عندما قال «أن تكون عدواً لأميركا قد يكون أمراً خطيراً، لكن أن تكون صديقًا هو أمر قاتل». إذ كشفت العواقب السلبية للحرب في أوكرانيا عن آثارها الضارة الواضحة على أوروبا، وأخرى خفية ستظهر في المستقبل. وقد أثبت مسؤولو الإدارة الأميركية، على عكس نظرائهم الأوروبيين، أنهم استراتيجيون ممتازون في التخطيط والتنفيذ وجني كل فوائد الحرب في أوكرانيا، وآخِرها هجرة الصناعة الأوروبية إلى أميركا الشمالية بسبب نقص الطاقة والمواد الخام في القارة بعد قرار الاتحاد الأوروبي بفصل نفسه عن روسيا وقريباً عن الصين.

التاريخ يعيد نفسه دائماً ويقدّم دروساً قيمة، ولكن يبدو أن القادة الغربيين بطيئون في التعلّم، إذ حُرمت أوروبا تَدَفُّقَ الغاز الروسي الرخيص، وهو ما كانت له عواقب وخيمة على سكان أوروبا وصناعتها. ولضمانِ عدم خضوع القادة الأوروبيين للضغط الشعبي ربْطا بارتفاع معدّلات التضخم وطلباً للعودة إلى التعامل التجاري والنفطي مع روسيا، يبدو بحسب تقرير الإعلامي الشهير سيمور هرش أن البحرية الأميركية فجرت إمدادات الغاز الرئيسية إلى ألمانيا، نورد ستريم 1 و 2، ما أدى إلى وقف تَدَفُّق الغاز بين أوروبا وروسيا. وقد كان هذا الهدف بالذات حلمَ العديد من الرؤساء الأميركيين الذين فشلوا بتحقيق نجاح يذكر، حتى تولى الرئيس جو بايدن منصبه ووعد بقطع إمدادات الغاز الروسي وحقّق وعدَه على حساب الاقتصاد الأوروبي وأمْن الطاقة لديه. وتَرَكَ الإجراءُ الأميركي جميع المسؤولين الأوروبين أمام أمرٍ واقع ما أجبرهم على شراء الغاز من النرويج والولايات المتحدة بسعر مرتفع للغاية لتلبية الطلب السنوي الهائل على الغاز - نحو 150 مليار متر مكعب.

وفي الواقع، باستثناء روسيا، لا توجد دولة أخرى في العالم لديها الإمكانات والبنية التحتية لتزويد أوروبا بما يقارب نصف احتياجاتها من الطاقة، كما كان الحال قبل فبراير 2022، عندما بدأت الحرب في أوكرانيا. لا يزال لدول الاتحاد الأوروبي العديد من الخيارات من خلال خطوط أنابيب الغاز المتعددة التي تجلب الغاز الروسي إلى القارة. إلا أن القرار الأوروبي بمعاودة التعامل مع موسكو لم يعد خياراً متاحاً في الوقت الراهن. لم يكن هذا القرار السيئ موجّهاً فقط ضد السكان الأوروبيين ولكن ضد قطاع الصناعة في الاتحاد الأوروبي.

ولدفْعِ أوروبا إلى المزيد من الانزواء، وقّع الرئيس بايدن قانون خفض التضخم (IRA) - بحزمة بقيمة 369 مليار دولار مصمَّمة لتعزيز الصناعة الخضراء في أميركا من خلال الإعفاءات الضريبية والإعانات لمنتجات «صنع في أميركا» - ما يجعل الولايات المتحدة أكثر جاذبية من أي وقت لشركات الاتحاد الأوروبي للانتقال إلى الولايات المتحدة.

وتم التوقيع على مشروع القانون ليصبح نافذاً قبل شهرٍ من تخريب نورد ستريم 1 و 2. ونتيجةً لذلك، تميل العديد من الدول الأوروبية إلى تحويل أعمالها نحو الولايات المتحدة حيث لا يوجد نقص في الطاقة كما هو الحال في أوروبا التي تسجّل أسعار الطاقة فيها أسعاراً أعلى بأربع مرات على الأقلّ منها في أميركا.

وقررتْ واشنطن عدم التراجع عن موقفها لأن الصناعة الأوروبية تقدّم وظائف للأميركيين. وجد أولاف شولتز وإيمانويل ماكرون شيئاً يتفقان عليه: دقّ ناقوس الخطر في شأن المنافسة غير العادلة من الولايات المتحدة وضرورة اتخاذ أوروبا إجراءات مضادّة لحماية نفسها.

كانت هناك خلافات عديدة بين المستشار الألماني والرئيس الفرنسي اللذين يمثلان أهم دولتين صناعيتين بعد إيطاليا، حول قضايا مثل أسعار الطاقة والطاقة النووية والدفاع الأوروبي. إذ أثارت رحلة شولتز الفردية إلى الصين أوائل نوفمبر غضب ماكرون. وصرّح رئيس الصناعة في المفوضية الأوروبية تييري بريتون: «من المهم جداً أن يتغير سلوك الدول الأعضاء تجاه الصين لننسق خطواتنا أكثر».

يدرك الجميع في القطاع الصناعي في أوروبا عدم قدرة القادة الأوروبيين على الوقوف في وجه الولايات المتحدة وتحدّيها عندما يكون هذا القطاع في موقف ضعيف. ومع ارتفاع تكاليف النقل والخدمات اللوجستية، ينتقل صانعو السيارات الأوروبيون بالفعل إلى الولايات المتحدة: إذ بنى فولكس فاجن مجمعاً في Tenessee، وأنشأت Mercedes قاعدة صناعية في ألاباما. وتخطط BMW لاستثمار 1.7 مليار دولار في الولايات المتحدة وإنتاج ستة طرازات كهربائية بالكامل على الأقل في مصنعها بولاية نورث كارولينا بحلول عام 2030. وستفتح شركة Northvolt السويدية مصنع Gigafactory للبطارية في الولايات المتحدة، على الرغم من أنها كانت تخطط للعمل في ألمانيا في عام 2025. وقررت شركة الكيماويات البلجيكية Solvay المشاركة في مشروع كبير للبطاريات عبر المحيط الأطلسي. ولذلك، فقد اشترت Solvay الشركة الأميركية CYTEC وسيكون لها قاعدة في أميركا الشمالية. وتخطط سان جوبان الفرنسية لتوسيع أنشطتها في كاليفورنيا. كما تعتزم رينو من خلال شريكتها نيسان، وبيجو وفيات، التأسيس في الولايات المتحدة للاستفادة من حوافز الضرائب والدعم. وتخطط شركة Iberdrola الإسبانية للطاقة لاستثمار ما يقارب نصف رأس مالها في أميركا خلال السنوات القليلة المقبلة. وقالت شركة أرسيلور ميتال لصناعة الصلب ومقرّها لوكسمبورج إنها ستخفض الإنتاج في مصنعيْن ألمانييْن بعدما كان أداء مصنع في تكساس أفضل من المتوقع. وقالت شركة أو سي آي، وهي شركة كيميائية مقرها أمستردام، إنها ستوسع مصنعاً للأمونيا في تكساس. وأعلنت شركة المجوهرات الدنماركية باندورا عن توسعات أميركية في وقت سابق من هذا العام. القائمة طويلة، والأهداف الأميركية سهلة التنبؤ: الدفع نحو هجرة قسرية للصناعات الأوروبية التي تمثل ثروة القارة العجوز، والتأكد من دفْن صفقة الطاقة الروسية الأوروبية لفترة طويلة جداً، والاستعداد لحربٍ إقتصادية لفصل أوروبا عن الصين. تهدف مفوضية الاتحاد الأوروبي إلى «تحديد أهداف القدرة الصناعية لعام 2030 لضمان أن التبعيات الاستراتيجية لا تعرّض الانتقال الأخضر للخطر».

ويتطلع مصنّعو السيارات الأوروبيون بشكل متزايد إلى الحصول على بطاريات من أجل «الطاقة الخضراء» المستقبلية. إلا أن هذه الخطة طموحة للغاية عندما تفتقد أوروبا إلى الإمداد الصناعي بالمعادن الحيوية للبطاريات، مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من المواد الخام للبطاريات المستقبلية من الصين حيث يتم إنتاج 70 في المئة من بطاريات السيارات الكهربائية. سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تقلِّل المفوضية الأوروبية من اعتمادها على الصين وتتماشى مع سياسة الولايات المتحدة وتنأى بنفسها عن صراعٍ مستقبلي محتمَل مشابه للصراع الروسي الأوكراني.

وتواجه أوروبا تحدياً آخَر: قدمت الصين إعاناتٍ صديقة للبيئة إلى صناعتها المحلية بمعدّل ضعف مستوى الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. ولمواجهة هذه التحديات، يجب أولاً أن تتّحد أوروبا بين أعضائها، وليس فقط الانحياز إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن كل الدلائل تشير إلى أن أوروبا اتخذت قرارها: ستستمر دول الاتحاد الأوروبي في الوقوف وراء سياسات الولايات المتحدة ومحاولة الحدّ من الضرر الهائل الذي تسبّبه هذه القرارات السياسية لسكان القارة العجوز. لقد صَدَقَ هنري كيسنجر: أن تكون صديقًا للولايات المتحدة قد يكون قاتلًا حقاً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي