«الراي» تقلّب صفحاتها الساخنة والباردة

العلاقة بين الجيش اللبناني و«حزب الله» أمرٌ واقع أمني تحوّل.. سياسياً

قائد الجيش اللبناني
قائد الجيش اللبناني
تصغير
تكبير

- تَعاظُم دور «حزب الله» جَعَله «رافعةً رئاسية»

ليس غريباً أن يتقدم إسمُ قائد الجيش العماد جوزف عون لائحةَ المرشحين الأوفر حظاً لرئاسة الجمهورية، بعدما صار لقادة الجيش مكاناً دائماً في قلب الإستحقاق. وإذا كان لكلٍّ من القادة الذين وصلوا إلى القصر قصة سياسية بأجنحةٍ أقليمية ودولية، فان ما يُطرح اليوم في إطار تَقَدُّم إسم الجنرال عون يعود لموقف «حزب الله» منه، بعد شيوع إتجاهِ الحزب إلى دعْم ـ لا ترشيح رسمياً ـ رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية.

فبعد اللقاء العلني الذي جمع قائد الجيش مع رئيس وحدة الإرتباط في «حزب الله» وفيق صفا، بات الكلام عن علاقة الجيش بالحزب فضفاضاً وأقرب إلى سبر أغوار الموقف الحقيقي للحزب من ترشيح عون ووصوله إلى قصر بعبدا.

ثمة خلفياتٌ معقّدةٌ للعلاقة بين الجيش و«حزب الله»، لا تنحصر بطبيعة الحال في ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، التي ما إن تكرست حتى أثير حولها لغطٌ في نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان بين معادلة ذهبية ومعادلة خشبية.

علاقةُ الجيش و«حزب الله»، علاقة ثلاثية الأضلع، لها وجهٌ سياسي وعسكري وأمني، بدأتْ في التسعينات مع تَكَرُّس وجود الحزب في الحياة السياسية، وأيضاً من خلال دوره كمقاومةٍ في الجنوب في وجه إسرائيل في ظل وجود الجيش اللبناني ودوره في الصراع ضد إسرائيل، وخصوصاً إبان إعتداءات إسرائيل المتكررة وشنّها أكثر من حرب على لبنان.

واذا كان هذا الجانب من العلاقة الأمنية والعسكرية يحمل كثيراً من التفاصيل، فإن الجانبَ السياسي الداخلي في علاقة الجيش و «حزب الله» يتشعب إلى مفاصل مختلفة، تتعلق بدعم الحزب قائد الجيش العماد اميل لحود قبل وصوله إلى رئاسة الجمهورية وبعدما أصبح رئيساً. في حين ان دعمه وصول قائد الجيش العماد ميشال سليمان إلى الرئاسة جاء بناء على خلفيتيْن: علاقةُ تنسيقٍ خلال وجود سليمان في قيادة الجيش التي تولاها في زمن الوصاية السورية وتأثيراتها، وتسويةُ إتفاق الدوحة وما خلص إليه الدورُ المصري في إختيار سليمان.

في الداخل، كانت علاقة «حزب الله» بالجيش «ثابتة» ويحكمها تنسيقٌ أمني بإعتراف الطرفين ومحاولةُ إبعاد الجيش عن التجاذبات السياسية ولا سيما بعد مرحلة عام 2005، من دون تجاهل تصويب القوى المعارضة لسورية على دور الحزب ووجوده داخل المؤسسة العسكرية وتأثيره على قرارها لسنواتٍ خلال مرحلة النفوذ السوري في لبنان.

بعد 2005 تَغَيَّرَتْ طبيعةُ العلاقة مع الجيش الذي«تَحَرَّرَ» من سطوة الوجود السوري. وساهم صعود قوى «14 مارس» في تشكيل حالة توازن سياسية وأمنية في لبنان بعدما تبدلت الكثير من المواقع العسكرية. وفي ظل قيادة سليمان للجيش في النصف الثاني من ولاية لحود الرئاسية حافَظَ على علاقة جيدة مع «حزب الله» وظل التنسيقُ الأمني قائماً، إلى ان وقعت أحداث 7 مايو 2008 واتَّهمت قوى «14 مارس» الجيش بأنه غض النظر عن دخول الحزب إلى بيروت وإلى مكاتب «تيار المستقبل». لكن في النهاية ربح سليمان ورقةَ دخوله قصر بعبدا.

عُيِّن العماد جان قهوجي قائداً للجيش، وتَغَيَّرَتْ مواقع عسكرية أساسية، لكن التنسيقَ الأمني بقي قائماً بفعل الأمر الواقع ولا سيما ان الجيش في تلك المرحلة خبر مجدداً حرباً إسرائيلية قاسية هي حرب يوليو 2006 التي أسفرت عن القرار 1701. وبنتيجة القرار الدولي أصبح التنسيق الأمني والعسكري في منطقة عمل اليونيفيل المعزَّزة بين الجيش والحزب أكثر تلقائية. علماً ان للمؤسسات الأمنية في لبنان وضعيتَها الخاصة وللأحزاب والقوى السياسية تأثيراتها في إختيار المواقع العسكرية الأساسية والمفاتيح الأمنية داخل المؤسسات، وللحزب كما لسواه من تلك القوى رأي في مواقع أساسية من ضمن تنسيقه مع الرئيس نبيه بري، وهذا الأمر معروف ومعلَن.

ثلاث محطات «عسكرية» أساسية تركتْ ظلالها على علاقة الجيش و«حزب الله»: الأولى حصلت عام 1993 عند جسر المطار في ضاحية بيروت الجنوبية، حين إنطلقت تظاهرةٌ إحتجاجية على إتفاق أوسلو. وقد حصلت مواجهات بين المتظاهرين، وجلّهم من مناصري الحزب، وبين الجيش سقط نتيجتها عشرة قتلى ونحو 40 جريحاً. حمّل الحزب يومها حكومة الرئيس رفيق الحريري المسؤولية، من دون أن يغفل عن دور الجيش في ما حصل لكنه لم يترك تفاعلات القضية تؤثّر على علاقته بالمؤسسة العسكرية بقيادة لحود آنذاك.

الثانية حدثت عام 2008، حين سقطت طوافة عسكرية تابعة للجيش برصاص «حزب الله» في تلة سجد في منطقة جزين. وإعترف الحزب بمسؤولية أحد عناصره مبدياً أسفه للحادثة ووَضَع القضية بيد القضاء. لكن القضية إتخذت أبعاداً أكثر سياسية حين حمّلت قوى «14 مارس» الحزب وتَعاظُم دوره المسؤوليةَ مباشرة عن مصرع الطيار سامر حنا وهو ابن البترون.

الثالثة لم تكن مواجهة بالمعنى الحقيقي، بل إرتبطت بإحتجاجات 17 اكتوبر 2019، وما رافقها من إنتقادات لدور الجيش وعدم فتحه الطرق التي أقفلها المتظاهرون ولا سيما طريق بيروت - الجنوب التي تُعدّ حيوية بالنسبة إلى «حزب الله».

لم تترك الحادثتان، الاولى (طريق المطار) والثانية (جزين)، تداعيات على علاقة «حزب الله» والجيش. لا بل ان قنوات الإتصال ظلت مفتوحة كما إستمر التنسيق الأمني ولا سيما في ما يتعلق بتعقب شبكات التجسس الاسرائيلي وتفكيكها، إضافة إلى وضع القوة الدولية في الجنوب والتنسيق ضمن آليات القرار 1701 براً وبحراً. كذلك فان علاقة الجيش والحزب في ما يتعلق بالترسيم البحري أخيراً كانت قائمة قبل ان تتغير المعادلة في القصر الجمهوري ويتم إخراج الجيش من الدور الذي كان يلعبه في التفاوض والترسيم وفق الخط 29. فعلى مدى سنوات إرتبط التنسيق الأمني والعسكري بمسؤولين من الطرفين، وظل عامل الثقة بينهما قائماً.

إلا انه مع إحتجاجات 17 أكتوبر تَبَدَّل الوضع على غرار ما تغيرت علاقة عهد العماد ميشال عون بقائد الجيش جوزف عون. فـ «حزب الله» لم ينظر بعين الرضى لأداء الجيش ولا لتنسيقه الدائم مع الولايات المتحدة التي إتهمها الحزب بأنها دعمت التظاهرات، فيما كان رئيس الجمهورية (وظله رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل) ينظر بريبة إلى أداء قائد الجيش الذي كان هدفاً لسرديةٍ تتهمه بأنه يعدّ لخلافة رئيس الجمهورية الذي كان يحضّر باسيل لوراثته.

ومع إقتراب الساعة صفر للشغور الرئاسي ساءت العلاقة بين الرئيس عون والجنرال عون أكثر إلى أن حصلت شبه قطيعة. في هذا الوقت كان «حزب الله» يتصرف بحذر حيال العلاقة مع قائد الجيش. علماً أنه مر بتجربة سابقة مع الفراغ الرئاسي وكانت علاقته «على ما يرام» بقائد الجيش السابق جان قهوجي، لكنه كان قدّم وعداً للعماد ميشال عون بإنتخابه، فطارتْ حظوظ قهوجي.

منذ مدة و«حزب الله» يتصرّف بواقعيةٍ مع حظوظ قائد الجيش، وهو فَتَحَ باب الحوار معه. كما ان قائد الجيش يعرف أين نقطة القوة في إستمرار الحوار مع الحزب من موقعه مرشحاً غير معلَن لرئاسة الجمهورية، وعلى تنسيق مع الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها من العواصم التي لها دلالة على خيار الرئاسة. والإعلانُ بوضوحٍ عن لقاء عون مع مسؤول في «حزب الله» يُعدّ أول خطوة علنية في إطار الكلام المفتوح بينهما. لكن الرئاسة شأن مختلف تماماً بحيثيته وتفاصيله. فللحزب وضعيته الخاصة، وقائد الجيش الذي يرفض ان يعلن انه مرشح، يتصرف مع «حزب الله» على أنه لقاء عملي لا أكثر ولا أقل. لكن الحزب وقائد الجيش باشرا الحوار عملياً، ومن الآن وصاعداً سيبنى على اللقاءات المتكررة الكثير على طريق القرار النهائي بدعم ترشيح عون أو لا.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي