لم يتغيّر شيء في إسرائيل. عاد بنيامين نتنياهو إلى موقع رئيس الوزراء، أي إلى السلطة. إنّها عودة لرجل ضيّق الأفق يراهن على عامل الوقت من أجل فرض أمر واقع على الأرض. ليس لدى «بيبي» سوى هذا الرهان، وهو أقرب إلى الوهم من أي شيء آخر.
يعكس هذا الرهان لدى الرجل، الذي سيشكل للمرّة السادسة حكومة إسرائيلية، التحوّل نحو اليمين داخل المجتمع الإسرائيلي الهارب دائماً من السؤال الأساسي المرتبط بالوجود الفلسطيني، وهو وجود لا يمكن التعاطي معه بالاتكال على عامل الوقت.
إنّه وجود مرتبط بشعب موجود على الخريطة السياسيّة للشرق الأوسط، لكنّه فوت فرصاً كثيرة من أجل نقل هذا الوجود السياسي إلى حقيقة جغرافيّة تجسدها دولة مستقلة قابلة للحياة تعيش بسلام مع محيطها.
هناك ضيق أفق إسرائيلي، لكنّ هناك تقصيراً فلسطينياً أيضا.
لعلّ أكثر ما يستفيد منه «بيبي» الانقسامات الفلسطينيّة في الداخل الإسرائيلي، إضافة في طبيعة الحال، إلى غياب الإستراتيجيّة الفلسطينيّة، خصوصاً مع تحوّل السلطة الوطنيّة إلى نظام عربي آخر على الطريقة البعثيّة أو القذاّفية (نسبة إلى معمّر القذافي) أو الجزائرية حيث يسيطر العسكر على كلّ شيء ويرفضون تحويل بلد مهمّ إلى دولة طبيعية تسعى إلى تطوير نفسها.
هذا ما كشفته الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي كان في استطاعة الفلسطينيين، الذين يمثلون نحو عشرين في المئة من سكان دولة إسرائيل، الحصول على عدد أكبر من النواب في الكنسيت.
فشلوا في ذلك بسبب التناحر في ما بينهم. معنى ذلك أن التناحر بات يشمل الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل، مثلما يعاني منه الفلسطينيون المقيمون أيضا في الضفّة الغربيّة وغزّة.
عدد هؤلاء نحو خمسة ملايين، ثلاثة في الضفة ومليونان في غزّة، في أقلّ تقدير.
المؤسف في الوقت الراهن غياب أيّ رغبة إسرائيلية، في البحث في كيفية التعاطي مع هذا الواقع الذي لا يمكن إلّا أن يؤدي إلى انفجار في يوم ما.
هناك هبوط في مستوى السياسيين الإسرائيليين. ليست عودة «بيبي» إلى موقع رئيس الوزراء سوى تعبير عن هذا الهبوط. كلّ ما يفعله «بيبي» هو تجاهل وجود شعب فلسطيني، علما أنّ هذا الشعب حيّ يرزق ولا يمكن محوه من الوجود.
شكل «بيبي» حكومة جديدة أم لم يشكل مثل هذه الحكومة. حصل الإرهابي، بشهادة الولايات المتحدة، ايتمار بن غفير على موقع وزير الأمن الداخلي أم لم يحصل عليه.
لن تتمكن إسرائيل في أي وقت من الإفلات من قضيّة وجود شعب فلسطيني عليه أن يقرر أيضاً ما هي استراتيجيته ومن سيتولى تنفيذ هذه الإستراتيجية في مرحلة ما بعد غياب محمود عبّاس (أبو مازن).
لا وجود لإستراتيجية إسرائيلية ولا وجود لإستراتيجيّة فلسطينيّة.
من الواضح أنّ المصالحة بين «فتح» و «حماس» غير واردة. كلّ ما في الأمر أن «حماس» تنتظر رحيل «أبو مازن» للانقضاض على السلطة الوطنيّة الفلسطينية.
تسعى الحركة الإسلاميّة، التي تبقى جزءاً من تنظيم الإخوان المسلمين، إلى تكرار سيناريو غزّة في العام 2007.
اختارت وقتذاك التوقيت المناسب لإعلان قيام «إمارة إسلاميّة» في القطاع.
لم تكن إسرائيل بعيدة عن هذا القرار، خصوصاً أنّها تعرف تماماً أنّ «حماس» وجدت في الأصل لتكون في خدمتها.
هل من خدمة أكبر من خدمة اطلاق صواريخ من غزّة في اتجاه الأراضي الإسرائيلية؟ هل من خدمة أخرى أكبر، لليمين الإسرائيلي، من العمليات الانتحارية التي تفذتها «حماس» في مرحلة معيّنة خدمة لإيران وغير إيران؟
لن تتغيّر «حماس» في يوم من الأيّام. ستستفيد إلى أبعد حدود من ترهّل السلطة الوطنيّة الفلسطينية التي لم تعد لديها أي وظيفة سوى الوظيفة الأمنيّة التي تحددها لها إسرائيل.
في المقابل، لن يتغيّر «بيبي» في يوم من الأيآم، لا لشيء سوى لأنّه رجل جامد وتلميذ نجيب لمدرسة اسحق شامير الذي كان رئيساً للوزراء لدى انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في خريف العام 1991.
وقتذاك، جرّت الإدارة الأميركية، إدارة جورج بوش الأب وجيمس بايكر (وزير الخارجيّة) وبرنت سكوكروفت (مستشار الأمن القومي) إسرائيل إلى المؤتمر جرّاً.
في مدريد كان نتنياهو الناطق باسم الوفد الإسرائيلي وكان شامير يقول ما معناه إننا سنفاوض الفلسطينيين عشر سنوات وسنستغل هذه المفاوضات من أجل فرض أمر واقع على الأرض. لم يخرج «بيبي» يوماً عن خطّ شامير.
لا يؤمن سوى بالمماطلة والجمود... والاستيطان.
لم يحد نتنياهو يوماً عن هذا النهج الشاميري القائم على متابعة الاستيطان. لن يجد مشكلة في صعود «حماس». لا لشيء سوى لأنّ صعودها يخدم استراتيجية الجمود. سيردّد «بيبي» ما كان يردده ارييل شارون عن أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه...
تبقى الحقيقة الوحيدة التي لن يتمكن «بيبي» من تجاوزها، وهي حقيقة وجود الشعب الفلسطيني الذي لا يمكن أن يبقى ضحيّة عجز السلطة الوطنيّة وتآمر «حماس» عليه وعلى مشروعه الوطني... وحال التناحر في الداخل الإسرائيلي، وهي حال تناحر ظهرت واضحة من خلال الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.
يضع فلسطينيو الداخل دائماً الحقّ على غيرهم. يرفضون الاعتراف بتقصيرهم وعجزهم عن تشكيل قائمة واحدة تأتي بعدد أكبر من النواب إلى الكنسيت.
يبقى سؤال يندرج في سياق ما أسفرت عنه الانتخابات النصفية الأميركية التي صبّت في مصلحة إدارة جو بايدن.
استطاعت الإدارة الحالية تفادي ضرر كبير كان يمكن أن يلحق بها لو خسرت الأكثريّة في مجلس الشيوخ.
ستكون الإدارة أكثر قدرة على التحكّم بملفات السياسة الخارجيّة. ليس معروفاً، في ضوء الحرب الأوكرانيّة ونتائجها الكارثية على العالم، هل ستجد وقتاً للملفّ الفلسطيني - الإسرائيلي مع ما يعنيه ذلك من وضع ضوابط لموجة جديدة من الاستيطان تقودها أحزاب فاشية وعنصرية متحالفة مع «بيبي»؟ هل ستجد وقتاً لتذكير الإسرائيليين بأن عليهم تفادي الهرب من سؤال اسمه وجود الشعب الفلسطيني؟