من الخميس إلى الخميس

الاستعمار عن بُعد

تصغير
تكبير

هناك اهتزاز واضح في الشخصية العربية لا سيما من بعض المسؤولين في بلادنا، والسبب هو عقود من التوجيه المعنوي الموجه لهم لجعلهم يفقدون الثقة في أنفسهم أولاً ثم في مواطنيهم.

إن تواطؤ الدول الغربية لتشويه صورة الإنسان العربي والتقليل من قدراته كان هدفاً بديلاً للاحتلال وتم النجاح في تحقيقه بنسب كبيرة لا سيما في دولنا الخليجية، حملات البرمجة الدماغية ضد الثقة لم تبدأ الآن بل بدأت منذ عقود طويلة، ولعل إذاعة (بي بي سي) البريطانية كانت من أولى المحطات التي تبنت حملة هز الثقة في الشخصية العربية والتحريض على قيمها، وقد تجد اليوم من العرب من يدافع عن تلك المحطات الإعلامية الأجنبية التي رُصدت لها الملايين من أموال ضرائب شعوبها لتتكلم بلغتنا، يدافعون عن تلك المحطات تحت حجة أنها تنشر الخبر الصحيح؛ أو تطالب بالديموقراطية؛ أو تعطي المجال للرأي الآخر.

لقد أجمع باحثو الإعلام أن ما يحمله الإعلام من أدوات اغراء، هو مجرد وسيلة تهدف في النهاية لزرع الصورة المستهدفة لدى المتلقي، وهو ما يُعرف بصناعة الإذعان (يمكن الرجوع هنا إلى كتاب الرأي العام الذي أصدره الأميركي والتر ليبمان، Walter Lippmann عام 1922)، إذا كل ما نُقل عن ذلك الإعلام طوال العقود الماضية من أخبار وحوارات، وبرامج ثقافية لم يُساهم في تطوير عالمنا العربي بل نجح فقط بقتل روح الفخار والثقة في أمة العرب؛ ورفع من تعظيم الإنسان الغربي حيث أصبحت لدينا عقدة الخواجة، عقدٌ تجلّت بالاستعانة بالخبرات الغربية والتعليم في المدارس الأجنبية؛ وتهميش لغتنا العربية؛ واستقدام المناسبات المُخالفة لقِيمنا.

اليوم، معظم المسؤولين في عالمنا العربي ممن تلقوا رسالة المحطات الأجنبية منذ القدم يطالبون بالاستعانة بالخبرات الغربية في كل معضلة تواجههم، ووصل بنا الأمر إلی الاستعانة بـ (طوني بلير)، من أجل إيجاد حلول لقضايا تهمنا ودفع الأموال له لنسخ تقارير خبرائنا وإعادة تصديرها لنا.

لا نستغرب إذاً أن نجد بيننا اليوم من يُطالب وبصورة متكررة بإحضار فرق أجنبية من أطباء وعلماء وخبراء، على الرغم من كل ما مررنا به وشهدناه من التجارب السابقة بالاستعانة بهم، تجارب كلها لم تنجح في تطوير جانب واحد من جوانب حياتنا، بل إن تجارب أبنائنا الخاصة في مؤسساتنا هي التي نجحت في تطوير بعض جوانب العمل لدينا، ومنها نظام التأمينات الاجتماعية؛ ونظام خدمة المواطن ونظام الجمعيات التعاونية التي كانت كلها من أفكار أبناء البلد.

العالم اليوم قرية صغيرة، وقد تحقق التواصل الكامل بين الشعوب، ويمكنك أن تعيش في قرية نائية في الهند وتكون أقرب لإنسان في أي بقعة من العالم، أقرب له من زميل يعمل في مؤسسته نفسها، تستطيع أن تحاوره وتتبادل معه المعلومات والخبرات، قد تغيرت المعادلة منذ زمن، لكننا نأبى أن نتغير بسبب روح الهوان التي أصّلها فينا الإعلام الغربي المُوجّه.

الهند تطورت؛ واليابان سبقت كل الغرب؛ والصين اكتسحت العالم بالصناعات الخفيفة والثقيلة؛ وماليزيا حققت المعجزة، ودول أميركا الجنوبية دخلت السبق، وتركيا تواصل التقدم، ونحن مازلنا نطالب بالاستعانة بالغرب، مازلنا نطالبهم بالقدوم إلينا ومساعدتنا، مساعدتنا على التراجع للخلف، بينما غيرنا يتقدم للأمام بسواعد أبنائه، اليوم نلاحظ بوضوح كيف يوجه الغرب ومساعدينه في الإقليم كل أدوات التحريض على أي مسؤول لدينا يحاول الخروج من القيد المفروض عليه، أي مسؤول يحاول أن يطور بلاده، ويعد لمستقبل صناعي أو زراعي يجعلنا نلبس مما نصنع ونأكل مما نزرع، مثل هؤلاء المسؤولين سوف تأتيهم السهام من المنظمات الدولية ومن الغافلين منا؛ وسوف تُرصد هفواتهم لتصبح جرائم؛ وتُحقّر إنجازاتهم لتكون هوامش، كل ذلك حتى نبقى تحت الاحتلال عن بُعد؛ نُصدّر لهم معظم مواردنا الأولية من أجل استمرار صناعتهم وتطويرها؛ ونستمر نحن بالاستهلاك حتى ينفذ ما لدينا، عند ذلك تُرفع الحماية ويِدَعونا نواجه مصيرنا كما كنا في القرن التاسع عشر.

السؤال المهم، متى نخرج من هذا الاستعمار عن بُعد؟ متى تنتهي لدينا تلك الجملة القاتلة التي تخرج من أفواه بعض المسؤولين، جملة (استعينوا بخبرات أجنبية)، ألم يعلموا أن أبناءهم كبروا منذ زمن طويل؛ وأنهم قادرون على بناء بلدهم أسوةً ببقية دول العالم؛ وأن بريطانيا تبعث آلاف الرسائل الالكترونية لأبنائنا في الوطن العربي تُغريهم بكل الطرق أن يذهبوا ويعملوا لديها، إنه الاستعمار عن بُعد مازال مستوطناً لدينا، فمتى ينتهي؟؟

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي