في حرب أوكرانيا وملحقاتها الاقتصادية

أميركا الرابح الأكبر... وأوروبا الخاسر الأعظم

الخلافات سيطرت على اجتماع وزراء الطاقة الأوروبيين في بروكسيل يوم الجمعة الماضي
الخلافات سيطرت على اجتماع وزراء الطاقة الأوروبيين في بروكسيل يوم الجمعة الماضي
تصغير
تكبير

فشل وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي، بتحديد سعر الطاقة تجنباً لسقوط وحدة أوروبا التي تقف على شفا حفرة من الانقسام.

ويأتي قرار الدول الأوروبية بعدم الاتفاق كـ «نعمةٍ» أيضاً لشعوب دول الاتحاد الـ27 التي تدفع غالياً ثمن الولاء الأوروبي للولايات المتحدة، والتي تنوء منذ أشهر عدة تحت ثقل ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية والطاقة.

وتعترف أميركا، التي تحصد الأرباح تلو الأخرى، بأن حلفاءها الأوروبيين يدفعون الثمن باهظاً لدعم بقائها على «عرش» العالم، فتستنزف طاقات الاتحاد الأوروبي ليبقى «مطيعاً» للسنوات الطويلة المقبلة بعدما اختار زعماء القارة العجوز الانحياز لها ولو على حساب الرخاء، الذي أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتهاءه.

أعلنت روسيا انها ستوقف ضخ الغاز لجميع الدول التي ستفرض هي السعر الذي تراه مناسباً لما تحتاجه بشدة من الغاز. ويبدو مستغرَباً ان تحدد الدول أسعار الطاقة التي لا تستطيع العيش من دونها ولا تجد مصادر من دول أخرى تكفي لتلبية حاجاتها.

ليس هذا جديداً على العقلية «الاستعمارية» لأوروبا، وتالياً فهي ترى أنها تستطيع - كما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية أورسولا فون دير لايين - أن تمنع روسيا من زيادة إيراداتها الغازية في ظل ارتفاع الأسعار، وسط اعتقادٍ بإمكان دفْع سعر الكلفة فقط إلى موسكو.

وتصوّرت فون دير لايين ان روسيا ستقبل بالإملاءات الأوروبية مهما كانت أو تخسر الإيرادات الضخمة التي تدفعها أوروبا.

إلا أن رئيسة المفوضية وبعض القادة الأوروبيين (15 من أصل 27) أصيبوا بخيبة أمل لأن روسيا رفضت القرار الأوروبي قبل أن يصدر وأكدت ان أوروبا ستتألم إذا إستمرت بتحدي موسكو التي خفضت تدفق الغاز إليها بنسب كبيرة راوحت بين 40 في المئة إلى 9 في المئة.

وتنشط موسكو في السعي لإيجاد أسواق بديلة لإدراكها أن العلاقة الاقتصادية مع أكثر دول القارة الأوروبية تتجه نحو التباعد التدريجي بدفعٍ أميركي واضح، إذ أعلن البيت الأبيض ان الإدارة الأميركية ستساعد أوروبا للتخلص من الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية وستحارب أي طرف يشتري الطاقة من موسكو بسعر مرتفع عن أسعار الأسواق، بغض النظر عن حاجة الدول المشترية.

ويقول القادة الأوروبيون ان خزاناتهم الغازية أصبت مملوءة بنسبة كاملة أو ما شابه ذلك.

إلا أن ما لا يصرّحون به هو أن هذه الخزانات تغذي دولهم بنسبة ما بين 45 في المئة و50 في المئة فقط خلال موسم الشتاء المقبل وان الشعب سيتحمل جزءاً من ارتفاع الأسعار - والدولة الجزء الأكبر لامتصاص بعض الغضب الشعبي - الذي سبّبتْه العقوبات والتحدي الأوروبي لروسيا...

وذلك في وقتٍ لم تجد القارة العجوز البدائل الكافية للحصول على 155 مليار متر مكعب من الغاز الذي تحتاجه سنوياً بل على جزء منه من أميركا وأذربيجان وكازاخستان والجزائر وقطر وبأسعار مرتفعة جداً بالنسبة إلى سعر الغاز الروسي، الذي يتدفق عبر أنابيب خمسة (وما زال بعضها يوصل الغاز بكميات أقل) إلى أوروبا بأسعار مخفوضة عن أسعار السوق العالمي.

ولم تنجح عقوبات الغرب القاسية لإخضاع أو كسر روسيا وتغيير النظام فيها، كما صرح المسؤولون الأميركيون عن أهدافهم تجاه موسكو منذ فبراير الماضي.

بل ان روسيا باعت بقيمة 158 مليار دولار من الطاقة التي تملكها في الأشهر الـ6 الأولى من هذه السنة، دفعت أوروبا منها 85 ملياراً، تبعتها الصين بـ34.9 مليار وتركيا بـ10.7 مليار والهند بـ6.6 مليار واليابان بـ2.5 مليار وكوريا الجنوبية بملياري دولار.

وارتفع سعر الروبل الروسي وأصبح لدى المصرف المركزي فائضاً لدرجة ان هذا الارتفاع دَفَعَ بالمسؤولين لشراء اليوان الصيني للجم الإرتفاع وتحسن العملية المحلية بشكل كبير.

ومن الواضح ان قادة الغرب، خصوصاً أميركا وبريطانيا، يحاولون الترويج لمقولة ان الحرب على أوكرانيا هي المسؤولة عن التضخم الحاصل في العالم.

وهذه البروباغندا تهدف لتعمية الحقيقة عن الشعوب بأن سنوات الإقفال بسبب «كوفيد -19» هي التي أدت باقتصاد الدول إلى التدهور.

وكان القادة يحذّرون من أن الأزمة الاقتصادية آتية وستضرب العالم للسنوات العشر المقبلة نتيجة توقف عجلة الاقتصاد كلياً بعد الإغلاق التام.

إلا ان الحرب الأوكرانية أتت ليشار إليها على أنها السبب الرئيسي لجميع الأزمات.

فأزمة القمح والحبوب مثلاً لم تكن فعلاً أزمة حقيقية لأن أوكرانيا صدّرت نحو مليون طن من الحبوب، بعد الاتفاق التركي - الروسي - الأوكراني إلى دول غنية دفعت ثمن شحناتها لكييف بدل أن تذهب إلى الدول الفقيرة كما زعمت الدول الغربية قبل الإتفاق.

بالإضافة إلى ذلك فإن روسيا - المصدّر الأول للحبوب والقمح - أكدت أنها تستطيع تصدير من 25 إلى 50 مليون طن من الحبوب إذا كان العالم بحاجة لذلك.

إذاً هي حربٌ تريدها أميركا لتُدافِعَ عن هيمنتها بعدما تَحَدَّتْها روسيا.

وقد شدّت عَصَبَ حلف شمال الأطلسي، الذي يستنفر مئات الآلاف من قواته على الجهة الشرقية في تحدٍ واضح لموسكو التي تعلم انها لا تستطيع محاربة جيوش الغرب مُجْتَمِعَةً إلا بالسلاح النووي إذا شكلت هذه الدول خطراً على أمن روسيا القومي.

ولا تريد أميركا من هذه الحرب أن تنتهي بسرعة لأنها فرضت على الإتحاد الأوروبي أن يتبعها وعلى حلف الناتو، أن يعلن عداءه لروسيا، وأعادت الحياة إلى الحلف الذي وصفه الرئيس الفرنسي قبل الحرب بأنه «في حالة موت سريري».

أما موسكو فهي لا تملك حلفاً مثل أميركا ولكنها صمّمت، للمرة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية، على تحدي الأحادية الأميركية في العالم بخبرة أكبر واستعدادٍ اقتصادي أكثر فعالية وتَعاضُدٍ مع دول عانت من الهيمنة الأميركية حول الأهداف عيْنها.

صحيح القول ان روسيا لا تستطيع الإعتماد على الصين كحليف لها، لكن بكين تعلم أن أميركا تحتاج للحروب للإبقاء على جهوزية جيشها والدفاع عن زعامتها للعالم عبر إحداث أزمات تساعد الاقتصاد الأميركي والصناعة الحربية.

ولذلك فإن دولاً عدة تلتقي على منْع الولايات المتحدة من الاستمرار بقيادة العالم، بحسب مبدئها القاضي بغزو الدول الضعيفة وتدميرها وإضعاف القوية لمنعها من تَحَدّيها وإحداث الأزمات مثلما فعلت مع روسيا، وكذلك مع الصين (أزمة تايون الحالية والمتفاقمة).

تحارب أميركا اليوم خلْف أوروبا وتدفعها لقطع العلاقات مع روسيا التي كانت تُعتبر شريكاً طبيعياً للقارة الأوروبية.

ونجحت بدفع اليورو إلى التدهور وإلى بيع غازها الأغلى ثمناً وفرْض سياستها العدائية على روسيا وعَسْكَرَة القارة العجوز التي يتدهور اقتصادها يوماً بعد يوم وسط غضب سكانها الذين بدأوا بالتظاهر في مدن عدة ضد قياداتهم بسبب سياستهم الخاطئة، أو على الأقل، السياسة التي لا تتناسب مع المصلحة الأوروبية.

أما روسيا، فهي لن تتوقف في الوقت الراهن عن المواجهة ولا نية لديها في ذلك، لأنها لا تستطيع أن تخسر الحرب التي تصرّ أميركا على أن تربحها أو على الأقل أن تدفع موسكو للاستمرار بها لاستنزافها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي