خواطر صعلوك

السفينة المحبوسة في «المئة فلس»!

تصغير
تكبير

تعلّمت من تخصص التاريخ في الجامعة ألّا أنجذب للكتب التاريخية التي يكتب أصحابها بذاكرة انتقائية تجاه المجتمع والدين والحوادث والعوائل، فلا أحب مثلاً المؤرخ الذي يتذكّر ابن سيدنا نوح الذي كفر وغرق، ولا يتذكر أبناءه الثلاثة الذين ركبوا معه السفينة وكانوا عوناً له.

والكتاب التاريخي الجيد نادر، ندرة المرشح البرلماني الصادق، لذلك فأنا أكون أسعد الناس عندما أقرأ كتاباً تاريخياً جيداً، وربما من أمتع الكُتب التاريخية التي قرأتها كان كتابين للدكتور هشام العوضي، استاذ التاريخ بالجامعة الأميركية في الكويت، فالكتاب الأول هو «هبة - كيف تنتشر الأفكار في الكويت»، والثاني كتاب «تاريخ العبيد في الخليج العربي»، ولعل سبب إعجابي بالكتابين دون العديد من الكتب التاريخية الأخرى هو قدرة الكاتب على السرد الممتع، والخروج برواية غير مألوفة أو مكررة واتخاذ مسارات جديدة ومساحات لم تُطرق من قبل مع جرأة في الطرح، بالإضافة إلى ميلي الفطري للاهتمام بالتاريخ الاجتماعي أكثر من التاريخ السياسي.

وقد قرأت له أخيراً دراسة بعنوان «تحولات الهوية الخليجية قبل النفط وبعد الاستقلال»، وهي من الدراسات التي تذكرنا أن الدور الحقيقي للمؤرخ والمثقف هو إنطاق ما أُسكت في التاريخ أو طُمس تحت جدران الأسمنت وشوارع الأسفلت ومضخات النفط.

تذكر الدراسة أننا كخليجين عموماً وكويتيين خصوصاً ونحن ضمن موانئ الخليج كُنا مرتبطين تجارياً بساحل المحيط الهندي، الذي ضم ساحل عمان وشرق أفريقيا وغرب الهند وساحل فارس. أدى هذا الارتباط إلى التأثر بثقافة السواحل، في اللغة والملابس والمطبخ والموسيقى والزواج وبعض العادات. كانت الهوية في الخليج، كأيّ هوية ساحلية، منفتحة متعددة وغنية بالتنوع. تلاشى الارتباط بساحل المحيط الهندي بعد اكتشاف النفط والاستقلال، وأصبحت الهوية الخليجية محلية-عربية ثم انسحبت للداخل. لأسباب سياسية، جرى إغفال الإرث الساحلي أو استبعاده، والتركيز على الإرث المحلي-العربي. شكل هذا التركيز الرواية الرسمية في تاريخ المنطقة.

ويضيف «في الكويت مثلًا، يمثل الشباب 60 في المئة من عدد المواطنين. ولأن الكويت من الدول التي تحظى ببرلمان وحرية في التعبير، فإن اتجاهات الشباب تؤثر على الحكومة، وتمثل قوة دافعة في المستقبل... ولم يعاصر هذا الجيل أحداثاً فاصلة، مثل نشأة القومية العربية أو اندلاع الثورة الإيرانية، وبالتالي لم يرث الحساسيات العرقية أو الطائفية التي ورثها آباؤه. وقد اعتبر 36 في المئة ممَنْ تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاماً أنهم «مواطنون عالميون»، فيما عرف 9 في المئة أنفسهم على أساس المعتقدات الدينية... سيحتفي هذا الجيل بسردية السواحل، ويشعر بالفخر والزهو لأنها تمثل جزءاً مهماً من تاريخ دولته. كما يُمكن لتلك السردية أن تلهم هذا الجيل بتتبع مسيرة أجداده في الانفتاح، والاستفادة الجادة من الثقافات المختلفة».

تجادل الدراسة بأن إعادة إنطاق سردية تاريخ السواحل لا يشتبك أو يتعارض مع سردية الدولة، ولكن يُمكن أن يدعم رؤيتها للمستقبل. فالتاريخ الساحلي، بمؤثراته الثقافية والإنسانية، بالإضافة إلى القيم والمهارات التي أكسبها، يمكن أن يُشكّل مخزوناً تراثياً ملهماً للأجيال الجديدة المتعولمة، والدولة التي تطمح إلى مزيد من الانفتاح، من أجل صناعة اقتصاد لا يعتمد على النفط.

يبدو عزيزي القارئ أن هذه الدراسة هي نواة كتاب يحتفي بسردية السواحل، ونرجو من الدكتور هشام أن يمتعنا بكتاب يُخرج لنا السفينة المحبوسة في «المئة فلس» منذ الاستقلال وحتى اليوم، من أجل هوية قائمة على المبادرة والإبداع والريادة. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

Moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي