ولادة «نظام عالمي جديد» من ساحة المعركة الأوكرانية

دخان القصف الروسي يتصاعد من منشأة نفطية في أوديسا (أ ف ب)
دخان القصف الروسي يتصاعد من منشأة نفطية في أوديسا (أ ف ب)
تصغير
تكبير

يكثر الكلام عن ولادة «نظام عالمي جديد» من رحم ساحة المعركة الدائرة في أوكرانيا بين الولايات المتحدة وروسيا.

وينتظر الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، نتائج هذه المعركة وارهاصاتها وما سينتج عنها بعد أن ينكشف الغبار عنها، ويبدأ العمل على تحالفات ودفاعات وخطط مستقبلية ترسم سياسة العالم... الجديد وانقساماته، التي لا بد من ولادتها بعد مخاض طويل تخلله حروب مباشرة واحتلالات وحروب بالوكالة وعقوبات أحادية... فكيف سيكون «النظام الجديد»، وهل سيكون أفضل أو أسوأ مما سبقه؟

لا يظهر «النظام العالمي الجديد» ليحل مكان النظام الحالي الذي سيطرت عليه أميركا منذ عام 1990، يوم أعلن الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيوف، «البريسترويكا»، وإلى شهر سبتمبر من عام 2015 حين قرر الرئيس فلاديمير بوتين خوض معركة عودة روسيا إلى الساحة الدولية من خلال الحرب السورية ووجود القوات الروسية مباشرة في الميدان.

فالسيطرة الأميركية، لم تبدأ عام 1991 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق.

ولم تظهر أثناء الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، بل بدأت يوم السابع من ديسمبر من عام 1941، حين هاجمت القوات اليابانية، الأسطول البحري الأميركي في بيرل هاربر، وإعلان المانيا وإيطاليا واليابان، الحرب على الولايات المتحدة التي أعلنت بدورها الدخول في الحرب في اليوم الثاني من الهجوم الياباني.

أما أوروبا، فقد شهدت حضارات قديمة وعريقة منذ التاريخ اليوناني والروماني والعصر الهلنستي والعصر الروماني. وفي العصور الوسطى، خرج البرتغاليون والاسبان والبريطانيون والفرنسيون، لغزو العالم واكتشافه والاستيلاء على ثروته.

وخاضت القارة الأوروبية مئات الحروب عبر العصور إلى أن وقعت الحرب العالمية الأولى، والتي عرفت بالحرب الكبرى عام 1914... خاضتها بريطانيا وروسيا وأميركا - التي دخلت الحرب عام 1917، قبل 6 أشهر من انتهائها - وإيطاليا ورومانيا وكندا واليابان، في مواجهة المانيا والنمسا، المجر، بلغاريا والأمبرطورية العثمانية.

وجدت أوروبا وروسيا نفسها وجهاً لوجه (مع أميركا) ضد الحلف الآخر، لتصبح بريطانيا قائدة «العالم الحر» رغم خسارتها الكبيرة (900 الف قتيل) التي أتت في المرتبة الثانية بعد روسيا (مليون و700 ألف قتيل).

وفي الحرب العالمية الثانية، كان أيضاً لروسيا الحصة الأكبر من القتلى (24 مليوناً من العسكريين والمدنيين). إلا أن أميركا دخلت بموجب تشريع قدمه الرئيس فرانكلن روزفلت وحصل من الكونغرس على سلطة استثنائية بـ«إقراض» معدات بالسعر الذي يراه مناسباً لدعم الجهد البريطاني الحربي، تسدد فيها أوروبا المبالغ بعد خمسة أعوام من الحرب.

وهذا ما حفز الاقتصاد الأميركي المتعثر والذي عانى من كساد كبير ناجم عن انهيار أسواق الأسهم عام 1929.

وجدت أميركا أن لا بد لها من التعاون مع الإتحاد السوفياتي - الذي لا تكن له أي مودة - لهزيمة أدولف هتلر وخططه التوسعية. ورأت في القارة الأوروبية قاعدة عسكرية كبرى تنطلق منها لمواجهة التوسع السوفياتي أينما وجد، وبالأخص فصله عن أوروبا التي تحد روسيا الحالية جغرافياً وتتشارك معها في حروبها الكبرى.

وبدأت أميركا حربها الإعلامية والبروباغندا والتسابق التسليحي والنووي في مرحلة الحرب الباردة، فنجحت في الصمود بعدما أرست وجودها وتوسعت في أوروبا نحو الشرق الأوسط ودول آسيا، بهدف منع وصول نفوذ موسكو إليها.

وأدى سقوط الاقتصاد السوفياتي لأدنى مستواه إلى اتباع «البريسترويكا» (إعادة البناء باللغة الروسية) وتحرير الأسواق واتباع سياسة ونهج مختلف يعيد بناء البلاد.

وهذا ما أعطى لأميركا السلطة المطلقة على العالم لغياب قوى أخرى تواجهها.

وقد اعتبرت الولايات المتحدة ان روسيا ستعود إلى الساحة الدولية من جديد لما تملكه من مقومات وتاريخ وموارد وقوة عسكرية وإنتاجية وخبرات طبيعية.

ولذلك أصبح هدفها تأخير العودة الروسية للمنافسة.

وقد ساد الاعتقاد بان موسكو لن تستطيع الوقوف على قدميها قبل 2025 أو 2030.

وقد فوجئ الغرب بعودتها الذكية، والتي تتمتع بقوة ناعمة واقتصاد قوي تقف عائقاً أمام الهدف الأميركي بإخضاع الصين وإبقاء الأحادية على العالم.

وقد تعين على واشنطن قطع أجنحة موسكو أولاً لما توافره من عمق إستراتيجي للصين، خصوصاً ان روسيا هي لاعب دولي مهم وتتمتع بعقود اقتصادية هائلة مع أوروبا وتمتلك مقومات ضخمة ولديها «كلمة الفصل» في الأمم المتحدة على المستوى نفسه مع أميركا وقد بدأت بنسج علاقات إستراتيجية مع دول آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.

واعتقد الأميركيون ان بالإمكان إرهاب الكرملين، فوجدوا لدى رئيسه تصميماً على استدعاء القوى النووية لديه وقراره اللارجوع عنه لمنع تمدد حلف «الناتو» الذي تقوده الولايات المتحدة ويهدف إلى محاصرة روسيا على الأرض الأوروبية.

وحمل الرئيس باراك أوباما وهيلاري كلينتون وكذلك جو بايدن كراهية للرئيس فلاديمير بوتين، طغت على الواقع الذي ينص على عدم تحدي روسيا ومواجهتها.

ولم يلتفت المسؤولون الأميركيون إلى ان لـ «مخالب الدب الروسي» قدرة على الرد وإحداث أوجاع بدأ العالم كله يشكو منها بسبب عقوبات أميركية - غربية وضعتها على روسيا، فأصابت نفسها والاقتصاد العالمي الذي بدأ ينزف بقوة.

وبمجرد ان يحمل بايدن، الحرب الروسية على أوكرانيا، مسؤولية ارتفاع الأسعار في أميركا (والعالم)، وقوله إنه اضطر إلى استخدام احتياطي النفط، فهو دليل الألم الذي لم تعتقد أميركا أنه سيصيبها أولاً وسيصيب حلفاءها الأوروبيين بقوة.

لقد أعطت أميركا «الضوء الأخضر» لبدء المشوار الطويل لإزالة «الأحادية» ونزولها التدريجي عن قيادة العالم بعد تربع على العرش استمر 32 عاماً.

وكانت الولايات المتحدة رأت أن خمسة في المئة من سكان العالم الأميركيين، يستطيعون قيادة أوروبا الغنية (10 في المئة من سكان العالم) ونشر سيطرتهم على مناطق متعددة، ومواجهة آسيا التي تمثل 60 في المئة من سكان العالم وتمتلك مقدرات طبيعية وتكنولوجية هائلة.

إلا أن الحرب على أوكرانيا أفرزت زعامة لواشنطن على الغرب فقط وبدأ انحسار السيطرة الأميركية، على نحو سمح لروسيا بالمواجهة لأخذ مكانتها مجدداً ولكن بطريقة ناعمة، مستعينة بالصين ودول أفريقيا ودول أخرى تنتظر النتائج النهائية للمعركة الكبرى على أرض أوكرانيا لبدء مواجهة الولايات المتحدة لتوافر البديل عنها، من دون الحاجة لمعاداة الغرب.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي