الولايات المتحدة تخشى النموذج الصيني وتأثيره على الشرق الأوسط
بدأت الولايات المتحدة تشعر بأن نفوذها مهدد في ضوء توجهات بكين الجديدة ووجهتها الشرق أوسطية مستفيدة من إخفاقات واشنطن العسكرية في العديد من الحروب ومحاولات تدخلها السياسي المباشر في شؤون الدول على مدى عقود.
فالصين تأمل في تحقيق اختراق اقتصادي - سياسي «غير عدواني»، من خلال تقديم نموذج أقل شراسة وأكثر وضوحاً من النموذج الأميركي، متبعة مبدأ «القوة الناعمة».
وهي تتمتع بفرص قوية للنجاح بسبب الوعي المتزايد في هذا الجزء من العالم ودوله للحاجة إلى تنويع علاقاتها الدولية ومصادرها التجارية.
وهذا من شأنه تعزيز جهود تلك الدول لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والدول الغربية والاستدارة نحو الشرق وعدم التسليم بالحصرية المطلقة للغرب.
علاوة على ذلك، فإن التأثير المدمر للتدخلات العسكرية والعدد الكبير من القتلى والخسائر البشرية التي تسببت بها القوات الأميركية في منطقة غرب آسيا أدى إلى استياءً كبير بين العديد من السكان، لدرجة أن الاتصالات الحديثة والتبادلات على وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد قادرة على إخفاء ما قامت به.
وتتبع بكين نهج عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وقد سعت للوصول إلى سياسة «أعداء صفر»، رغم بعض التدخلات العسكرية (المتواضعة) في أجزاء مختلفة من العالم. فهي لم تهدد أي دولة بعمل عسكري أو عقوبات، على عكس واشنطن.
ولم تلوح أبدا بورقة «الدفاع عن حقوق الإنسان» لترهيب الدول، مستخدمة هذا الضغط لإعادة تأكيد نفوذها عند الحاجة.
وتراقب القيادة الصينية السياسات والديناميكيات الدولية، وكذلك سلوك الدول والشعوب التي تواجه أقوى قوة عسكرية في العالم عبر التمرد على الهيمنة الأميركية، وتالياً، لم تصل إلى الشرق الأوسط لـ«نهب» ما تجمعه أميركا في «سلتها»، بل هي تدعو إلى الشراكة مع الدول الغنية بالنفط التي تمتلك مصدر الطاقة الأساسي اللازم للصناعات الصينية، إضافة إلى أنها، تبحث عن أسواق متعددة لصناعاتها ومنتجاتها.
ما تؤمن به بكين يتوافق مع تطلعات معظم دول الشرق الأوسط. فهي تعتقد أن الاستقرار في المنطقة يتطلب ديناميكية اقتصادية وتأمين فرص عمل وإقامة بنى تحتية حيوية وتوفير التعليم والخدمات الصحية للجميع.
وهذا، من منظورها المرن، يساعد البلدان على النمو ومنع هجرة سكانها إلى الغرب أو إلى البلدان الغنية بالنفط. ولأن القارة الأوروبية المجاورة هي الأكثر تضرراً من تدفق المهاجرين، فإن الأهداف الصينية تتناسب مع رغبة دولها في دعم استقرار الشرق الأوسط ولكنها لا تصب بأي حال من الأحوال في تمكين الهيمنة الأميركية.
ومن خلال التمويل والقروض من البنك الدولي - الذي تهيمن عليه - بسطت أميركا هيمنتها على الدول الأشد فقراً. كما استهدفت دولا فقيرة، عبر عقوبات قاسية اختيارية لزعزعة استقرارها.
وسمح فشل الولايات المتحدة في تحقيق مثل هذه الأهداف، للصين التي تستخلص الدروس من أخطاء واشنطن والعمل على تجنبها. من الطبيعي أن تخشى بكين من محاولات الولايات المتحدة زعزعة استقرار وحدتها الداخلية وأمنها من خلال التلويح بورقتي «الديموقراطية» و«حقوق الإنسان».
لذا فإن «البطاقة الحمراء» في شأن حقوق الإنسان التي ترفعها في وجه خصومها مسيسة وبعيداً عن كونها مبدئية، وتالياً فإن مخاوف بكين مشروعة لأن واشنطن اكتسبت خبرة طويلة في تشجيع «الثورة الملونة» للإطاحة بالعديد من الأنظمة. ومع ذلك فإنها فشلت في تحقيق السلام في أي مكان شارك فيه جنودها في حرب.
إلا أن عجز الصين عن إطلاق وسائل إعلام محلية أو دولية قوية تدعم سياستها أو تروج لمئات المشاريع المهمة التي تقيمها في كل أنحاء العالم، أو تقدم النموذج الصيني مقابل الوضع الأميركي غير المثمر، واضح من خلال غيابها عن التداول في ساحات الشرق الأوسط.
تاريخ الصين مع العالم العرب
قبل ألفي عام، كانت لأسرة هان علاقات قوية مع الشرق الأوسط تمثلت باستخدام طرق التجارة القديمة المعروفة باسم «طريق الحرير»، والتي تربط الشرق بالغرب.
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، تراجعت حقبة ماو تسي تونغ السياسية نحو المناطق الداخلية والمناطق المحيطة بها كأولوية.
وقد أدت هذه السياسة إلى إضعاف العلاقة مع الشرق الأوسط حتى تولى دنغ شياو بينغ (1978 - 1989) القيادة، حيث بدأ في تحسين العلاقة بعد الإصلاحات الاقتصادية المحلية البطيئة.
إلا ان حاجة الصين للبترول (60 في المئة من نفطها يأتي من الشرق الأوسط) والقوة الشرائية التي تتمتع بها الدول العربية ودول غرب آسيا بشكل عام، دفع القيادة الصينية إلى إيلاء هذا الجزء من العالم مزيداً من الاهتمام لتصدير منتجاتها. وتالياً، خرجت من العزلة التي فرضتها على نفسها.
وعندما تولى الرئيس هو جينتاو السلطة (2002 - 2012)، أبرمت الصين اتفاقيات تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وتأسس منتدى التعاون الصيني العربي (CASCF) في عام 2004؛ بعد ذلك، تحسنت نسبة التجارة والاستثمارات الصينية مع الشرق الأوسط من مليار في 2005 إلى 11 ملياراً في 2009.
الصين الجديدة
في 2013، قدم الرئيس شي جينبينغ، أهم إستراتيجيته الاقتصادية وأكثرها طموحاً لإحياء «طريق الحرير» القديم، أطلق عليها اسم «مبادرة الحزام والطريق» البرية والبحرية للقرن الحادي والعشرين (BRI) لربط الصين بأوراسيا، وتالياً ربط أكثر من 60 في المئة من سكان العالم.
وسيمكن هذا المشروع الضخم الصين من تجاوز الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين سيطرا على القوة الاقتصادية العالمية لفترة طويلة جداً.
وقد هدفت مبادرة الصين إلى كسر الحلقة - التي حاولت الولايات المتحدة إقامتها حول مياهها - بـ «سلسلة عقد اللؤلؤ» - التي تربط عشرات الموانئ في غرب المحيط الهادئ / شرق آسيا بالمحيط الهندي وأفريقيا وأوروبا.
وستمكن الصين من الحصول على موطئ قدم في أفريقيا وأوراسيا وتعزيز قوتها الناعمة على طول الطرق التجارية الأكثر ازدحاماً.
في الواقع، تصل 90 في المئة من واردات النفط الصينية على طول هذا الطريق، آتية من أفريقيا والشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، تقدر التجارة السنوية المتدفقة عبر بحر الصين الجنوبي بنحو 5 تريليونات دولار، وهو ما يمثل أكثر من نصف إجمالي حجم التجارة التجارية في العالم.
ويعتبر الشرق الأوسط «منطقة إستراتيجية ذات أولوية قصوى» بالنسبة للصين لتصبح لاعباً أكثر أهمية على الساحة الدولية.
وفي الواقع، تبلغ استثماراتها في الشرق الأوسط 177 ملياراً، منها 70 مليار دولار مع دول مجلس التعاون الخليجي وحدها.
لا شك أن دول الشرق الأوسط بحاجة إلى الصين والعكس صحيح. لقد خطت بكين خطوات كثيرة للتوغل وحاولت بقوة الدخول إلى لبنان والعراق، وقدمت عروضاً مغرية لمشاريع تحتاجها البلدان الضعيفة والقوية. لكن توقيت طرح المشاريع المهمة لم يكن مناسباً في بعض الأحيان، كما حصل مع لبنان والعراق.
فقد خشي مسؤولو هذه الدول ردة الفعل الأميركية وغضبها.
وقد رفضت الولايات المتحدة «التنازل» للصين في العديد من دول الشرق الأوسط خوفاً من المقارنة التي ستهز حتماً صورتها وموقفها في ذلك الجزء من العالم.
في واقع الأمر، اختارت الولايات المتحدة أنواع الدعم المقدم إلى «أصدقائها» والتي كانت غائبة عن أي مشاريع مهمة متعلقة بالبنية التحتية المطلوبة في تلك الدول (مثل لبنان والعراق) حيث تهيمن أميركا جزئياً. وقد أدى ذلك إلى عجز مهم وعدم الرضا بين سكان تلك الدول.
وتوافر الإستراتيجية الأميركية، التي تتجاهل البنية التحتية، فرصة للصين للبحث عن حلول بديلة مثل العمل مع شركات مدنية بدلاً من التعامل مع الحكومات التي لديها خشية معينة ومخاوف من ردات الفعل، للاستثمار وتأسيس موطئ قدم.
أما في الشأن العسكري، فقد شاركت بكين في قوات حفظ السلام في لبنان عام 2016. وأرسلت سفنها إلى خليج عدن للمشاركة في عمليات مكافحة القرصنة، بقرار من الأمم المتحدة، من دون الانحياز إلى أي طرف أو التورط بطريقة أو بأخرى في صراعات الشرق الأوسط. وبالفعل أقامت الصين علاقات جيدة مع حركة «حماس» و«حزب الله» وإسرائيل وإيران والسعودية ووقعت اتفاقيات تجارية مع أكثر من 15 دولة عربية.
كذلك، تُظهر الصين قدراتها العسكرية من دون تردد. وقد أجرت مناورات بحرية مشتركة في خليج عدن مع إيران وروسيا للمرة الأولى. كما طلبت السنغال من الصين، التدخل لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
واستثمرت الصين أكثر من 200 مليار دولار في أفريقيا، وتالياً فإن أمنها مصدر قلق لبكين.
بالإضافة الى ذلك، انشأت الصين ترسانة عسكرية وبحرية وصواريخ متطورة، إذ اختبرت أخيراً صواريخ الفرط الصوتي الأكثر تقدماً، وهي صواريخ تفوق سرعة الصوت، والتي يمكن أن تشكل رادعا واضحا لأي دولة تريد مهاجمتها.
كما توجهت إلى افريقيا لبناء علاقات مع مصر والعديد من الدول. وأنشأت قاعدة بحرية في جيبوتي عام 2017 وساهمت بقوات حفظ السلام في السودان. ووصلت سفن التنين الصينية إلى سواحل طرطوس واللاذقية السورية.
إن الصين قوية بما يكفي لترهيب أي قوة أجنبية تميل إلى الاعتداء عليها بامتلاكها بضع مئات من الصواريخ النووية.
ومع ذلك، فهي بعيدة كل البعد عن التنافس مع كمية القنابل الذرية الأميركية، حتى لو كان عدد الأسلحة ليس بمعيار لأن بعض الصواريخ النووية تكفي لتدمير هائل.
وقد شاهد العالم كيف استخدمت الولايات المتحدة قنبلتين فقط على هيروشيما وناكازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.
وكانت هذه القدرة كافية لتدمير مدينتين يابانيتين وإظهار القدرة التدميرية للولايات المتحدة تجاه السكان المدنيين في حالة الحرب.
البنك الآسيوي الدولي وقوة الصين الاقتصادية
خلال الحرب الباردة، استفادت الصين من السباق النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق لتعزيز اقتصادها وتحقيق أهدافها.
وقد سمحت الثروة الصينية التي استطاعت جمعها بالشروع في مشاريع ضخمة تؤثر على الاقتصاد العالمي.
في الواقع، فقد أعلنت الصين عن تأسيس البنك الآسيوي الدولي في 2013 مقره بكين ويضم 104 أعضاء، بما في ذلك السعودية ومصر والأردن وإيران والكويت وعُمان وقطر والإمارات والبحرين، برأسمال 100 مليار دولار.
وتتنافس الصين مع نفوذ البنك الدولي الذي أسسته الولايات المتحدة لفرض سياستها الاقتصادية على الدول ولتتدخل في شؤونها الاقتصادية والسياسية - وهو تأثير أكثر أهمية من أي تدخل عسكري.
وكذلك تتواجد الصين كدولة نشطة داخل «البريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) وهي عضو في منظمة شنغهاي للتعاون (الصين والهند وكازاخستان وقيرغيزستان وباكستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان وإيران).
وتحاول بناء شراكات وحلفاء من أجل الازدهار الاقتصادي وتعزيز مكانتها في جميع أنحاء العالم.
على عكس قاعدة السياسة الأميركية، تبني الصين هدفها الحالي وفق «استراتيجيات شراكة» مع دول الشرق الأوسط.
وتعمل كقوة عظمى على ترسيخ مكانة دولية تحميها من التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية. وبعد إغلاق الأبواب على نفسها لعقود من الزمان، تعلمت الدروس من أخطاء القوى الكبرى، مثل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
ولقد ثبت أن الحلول العسكرية لا تحقق الأهداف المرجوة في كثير من الأحيان.
في الوقت الحالي، تفتقر الصين إلى الخبرة لكسب قلوب وعقول سكان الشرق الأوسط الذين يتوقون للتعامل مع قوة اقتصادية عظمى أكثر وضوحاً ولا يتطلعون حصرياً إلى رؤيتها تتطلع إلى ما يوجد في جيوبهم فقط.
ومع ذلك، فإن سياسة بكين هي بلا شك تقضي بالتحرك ببطء ولكن بثبات وتعزيز مكانتها في كل أنحاء العالم قبل أن تصبح لاعباً بارزاً.
وتثير هذه السياسة والأهداف القلق في قلب الإدارة الأميركية، التي تخشى المنافسة الشديدة على هيمنتها من روسيا والصين.
وتالياً فإن واشنطن تدرك أن عصر الأحادية قد انتهى وأن العصر الحالي وهو للتعددية القطبية التي أصبحت حقيقة واقعة لا جدل بها.
وهكذا يبقى السؤال: هل يمكن للصين أن تلعب دور «المايسترو» (بشكل أكثر عقلانية من أميركا) من دون استخدام وفرض قوتها العسكرية، معتمدة بشكل أساسي على القوة الاقتصادية؟