ميشال عون الضائع بين الحقيقة والخيال

تصغير
تكبير

عندما يفاوض جبران باسيل باسم المسيحيين في لبنان من أجل أن تتشكل حكومة، لا يعود مستغرباً أن يحلّ بالمسيحيين خصوصاً، وباللبنانيين عموماً، ما حلّ بهم.

في النهاية، يفاوض باسم المسيحيين شخص فرضت عليه عقوبات أميركية بموجب قانون ماغنتسكي المتعلّق بالفساد. هل يمكن لشخص فرضت عليه عقوبات أميركية أن يكون واجهة المسيحيين في لبنان ووجههم؟ لا يشبه جبران باسيل سوى وجه حركة«حماس» التي أخذت الشعب الفلسطيني من كارثة إلى أخرى بعدما حولّت نفسها إلى وجه هذا الشعب وواجهته في العالم.

قبل ذلك، لم يفوت جبران باسيل الفرصة تلو الأخرى لمنع عودة الكهرباء إلى لبنان. إنّه المشرف الفعلي، مباشرة وغير مباشرة على وزارة الطاقة منذ 12 عاماً. رتّبت الكهرباء كلفة نحو خمسين مليار دولار على خزينة الدولة. بكلام أوضح، زاد الدين العام خمسين مليار دولار بسبب الكهرباء. يريد رئيس الجمهورية ميشال عون إجراء كل التحقيقات الممكن إجراؤها باستثناء تحقيق جدّي في فضيحة الكهرباء!

ليس هناك من أساء إلى المسيحيين في لبنان أكثر من زعماء المسيحيين أنفسهم، بدءا بتغطيتهم لاتفاق القاهرة في العام 1969 وصولاً إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016، مروراً بدخول لعبة الميليشيات المذهبيّة في سبعينات القرن الماضي. فعلوا ذلك من دون أن يوجد بينهم من يبدي تحفّظاً عن مثل هذه الخطوة، التي لم يكن الضابط ميشال عون بعيداً عنها كضابط صغير، على الرغم من غياب أي شريك مسلم في التصدّي للانتشار الفلسطيني المسلّح وقتذاك. كان انتشاراً أقلّ ما يمكن وصفه به أنّه جريمة في حق فلسطين ولبنان وخدمة لا تقدّر بثمن لنظام حافظ الأسد.

كان حافظ الأسد راغباً في وضع يده على لبنان وفي وضع يده على القرار الفلسطيني المستقلّ في الوقت ذاته. لعب المسيحيون في لبنان لعبته بعد انفلات الغرائز وإسقاط الشهابيّة في صيف العام 1970. وحده ريمون ادّه اعترض على اتفاق القاهرة مثلما اعترض على دخول المسيحيين لعبة السلاح الميليشيوي من خارج إطار الدولة ومؤسساتها.

كان طبيعياً الوصول إلى المشهد السوريالي الحالي في بلد لم يعد فيه من يحاسب. من أخطر ما حصل في السنوات القليلة الماضية انتخاب مرشّح «حزب الله» رئيساً للجمهورية. لا يقلّ عن ذلك سوءاً إغلاق مجلس النواب سنتين وخمسة أشهر كي يفرض «حزب الله» ميشال عون رئيساً للجمهورية، وقبل ذلك الخروج ببدعة الحكومات القائمة على المحاصصة. المحاصصة بمثابة إلغاء لما بقي من ديموقراطية في لبنان في ضوء تحويل الحكومة إلى نسخة مصغّرة عن مجلس النواب. لم يعد من مجال لأي محاسبة للحكومة. أنهت حكومات المحاصصة وما سمّاه «حزب الله» بـ«الديموقراطية التوافقيّة» أي دور للمجلس النيابي الذي تحوّل إلى منبر لخطب رنّانة من النوع المضحك المبكي.

يبدو لبنان في أحوج ما يكون من أجل الخروج من أزمته العميقة إلى حكومة اختصاصيين، فيما لا همّ لرئيس الجمهورية سوى الخروج من أزمة جبران باسيل. لا وجود لهمّ لدى رئيس الجمهورية سوى جبران باسيل. يتحدّث عن أمور كثيرة يعرف الطفل اللبناني أنّها مجرّد غطاء لإعادة تأهيل شخص غير قابل للتأهيل استقبله إيمانويل ماكرون أم لم يستقبله... وليس ما يشير، أقلّه إلى الآن، أنّه يمكن أن يستقبله لا وحده ولا مع آخرين من السياسيين اللبنانيين.

ما يجري على أرض الواقع مخيف. يكشف ما يجري الهوة العميقة التي تفصل بين الحقيقة والخيال. هناك رئيس للجمهورية يتّصل برئيس النظام السوري بشّار الأسد من أجل ترسيم الحدود بين البلدين. هذا الرئيس لا ينبس ببنت شفة عندما يتعلّق الأمر بإزالة «حزب الله» مفهوم الحدود بين لبنان وسورية، بعد مشاركته إلى جانب النظام الأقلّوي القائم في الحرب على الشعب السوري. هذه هي الحقيقة. أما الخيال، فهو تصوّر أنّ بشار الأسد، سيسارع إلى ترسيم الحدود البرّية والبحرية وإنصاف لبنان بدل الاعتداء عليه وعلى حقوقه كما يحصل حالياً بعد مصادقة وزارة النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام السوري على اتفاق يتعلّق بالتنقيب عن النفط في منطقة قبالة طرطوس. يغطي الاتفاق السوري مع شركة روسيّة منطقة مسحتها 2250 كيلومتراً مربّعاً، بينها 750 يمكن أن تكون من حصّة لبنان.

الخيال أيضاً أن يتحدّث ميشال عون عن استراتيجية دفاعيّة. أمّا الحقيقة فهي أن لا بحث في مثل هذه الاستراتيجية ولا من يحزنون، بل تركيز على حاجة لبنان إلى سلاح «المقاومة»، أي سلاح «حزب الله».

الخيال حديث رئيس الجمهورية أيضاً عن تحوّل لبنان إلى بلد نفطي في حين لملمت شركة «توتال» الفرنسيّة معداتها وغادرت منطقة كانت تنقب فيها قبالة ساحل البترون. انسحاب «توتال» هو الحقيقة.

الحقيقة تتمثّل في أن العقوبات الأميركية على جبران باسيل لا يمكن رفعها بسهولة. لا يمكن رفعها إلا في الخيال. الخيال هو في الربط بين رفع هذه العقوبات وتوقيع ميشال عون، على مراسيم تشكيل الحكومة اللبنانية من جهة والسماح قبل ذلك لجبران باسيل بزيارة باريس واستقباله فيها رسميّاً من جهة أخرى...

بين الحقيقة والخيال ضاع لبنان. ضاع في عهد لا يفرّق بين الحقيقة والخيال. هناك رئيس يعيش في الخيال ويتحدّث عن سوق مشتركة بين لبنان وسورية والأردن والعراق. لا يعرف شيئاً لا سورية ولا عن الأردن ولا عن العراق. كيف يمكن أن يعرف ما دام لا يريد أخذ العلم بالكوارث التي حلّت بلبنان. كوارث تبدأ بانهيار النظام المصرفي، وتصل إلى تفجير مرفأ بيروت، وتمرّ بهجرة الشباب من بلد لم تعد فيه فرص عمل ولا مستشفيات ولا جامعات ولا حتّى أدوية!...

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي