No Script

من الخميس إلى الخميس

مصيبة السُلطة القادمة

تصغير
تكبير

انتبه نحن في عصر السلطة الخامسة! سلطة الجمهور، غداً إذا أوقفت سيارتك في موقف مخالف فسيتم إرسال صورة سيارتك ولوحتها إلى أقرب نقطة مرور، سيرسلها عشرات من المارة الذين التصقت هواتفهم بأيديهم، ستأتي بعدها سيارة المرور مسرعة وتسحب سيارتك وعليك بعد ذلك الركض وراءها.

نحن في عصر (كل مواطن سُلطة)، كل الناس العاديين اليوم، حتى الأطفال، يحملون هاتف التصوير المرتبط بالشبكة العنكبوتية، فهم إذاً جميعاً مشروع سُلطة، يوثّقون بالصورة والفيديو كل ما يجري في الشارع وفي المكاتب وفي أي مكان، ويقومون بنشرها، وقد تجد نفسك متهماً أو حتى مداناً من الجمهور لأمر لا تذكره.

اليوم الشرطي لم يعد ذاك الشرطي الذي نعرفه، والقاضي لم يعد القاضي الذي بيده الحكم، تداخلت الأمور مع وجود تلك السُلطة الجديدة، هناك مئات الآلاف من الشرطة والمدعين العامين يتحرّكون اليوم في الشارع، يراقبون ويصوّرون ويوثّقون ويرسلون ما تفعله وما تقوله في الشارع العام، ويا ليت تلك السُلطة الجديدة توقفت عند ذلك، بل إنها توسّعت لتُغيّر مفاهيم استقر عليها العقل البشري منذ خُلق الإنسان.

في الماضي كان الحسّ والخيال يخلقان ذلك التناغم الجميل بين ما نراه وبين ما نتخيله، كنا نرى قليلاً ونحلم كثيراً، اليوم مع السُلطة الخامسة أصبحنا نرى كل شيء ونوثّق كل شيء، ما عاد للخيال دور، إنها مصيبة كبيرة بدأنا نشعر بها في هذه الحقبة.

تتأمل منظراً جميلاً، وبدل أن تستمتع به وتَسرح في إبداعياته، تنشغل بتوثيقه وأخذ اللقطات التصويرية له من كل الزوايا، تسمعُ شعراً أو نثراً فيكون كل همّك تسجيله بدل الاستمتاع به.

عصر السُلطة الخامسة، هذا سيكون أكبر سبب لتغيير مبادئ ونظريات فلسفية استقر عليها الفكر الإنساني، لن يكون هناك انفصال بين الحسّ والخيال، وسيكون هناك تداخل كامل بين حقيقة الوجود وماهيته، وسنقترب من الوصول الى إسقاط اللاوعي محاولين الرجوع إلى نظرية عصر المادة، سيتعطّل الخيال ونقترب من سيطرة المادة على الوعي، وسنقترب أكثر من وحدة الوجود والفكر، وحدة لم يتخيلها أحد من الفلاسفة من قبل، حيث لا تسبق المادة الوعي ولا يسبق الوعي المادة، بل تتغلّب المادة على الوعي بشِقيه فيختفي العقل الذي نعرفه، غداً سيُمسك كل إنسان بيده آلة التوثيق التي تحجب خياله وتُلزم وعيه بحدود المادة، أين سينتهي بنا المطاف؟ هل سيقف العقل البشري عند حدود الصورة؟ وهل سينتهي دور اللاوعي المسؤول الأول عن تجميع اللقطات الخفية وترجمتها الى إبداعات أدبية وفنية؟

ما يبدو لنا اليوم بسيطاً، كمخالفة مرور، قد ينتهي بنا إلى نوع مختلف من البشر، بشرٌ لا يملكون خيالاً ولا يستفيدون من اللاوعي، فكل إنسان أصبح يملك عينه وأذنه اللتين يرى ويسمع بهما كل التفاصيل، واللتين تمنعان عنه الاحتياطي الإبداعي في اللاوعي، يملكهما داخل هاتفه النقال حيث يترجمهما في ثوان إلى مواقف وآراء ونظريات أمام بقية البشر.

بعد غدٍ سيكون هناك عالم غريب لكن كلنا، الذين نعيش في هذا الزمن، وإن كنا نرى اليوم بداياته إلا أننا لن نحصد نتائجه، ولله الحمد.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي