من الفليك إلى الماكارون!

تصغير
تكبير

أتذكر في طفولتي أن شوكولاتة «فْليك» (وبعض المنتجات الأخرى أيضاً) كانت شيئاً ثميناً جداً، يُجلب للأحباب «صوغةً» حين القفول من السفر.

تلك كانت مقاطعة رسمية حكومية تمنع دخول منتجات الشركات التي لها صلة مع الكيان الصهيوني.

وحدث ما نعرفه جميعا: «كل ممنوع مرغوب»، ولقيت هذه المنتجات رواجاً عظيماً.

وهذا درس ثمين في فن المقاطعة: المبادرة يجب أن تبدأ من الجماهير، من قاعدة الهرم لا أعلاه.

كبرنا، وجاءت في 2005 أزمة «يولاندس بوستن» التي نشرت رسوماً مسيئة للنبي -عليه الصلاة السلام - وأعادت مطبوعات أوروبية أخرى نشرها تضامناً معها.

فكانت نتيجتها مقاطعة شعبية كاسحة، ومظاهرات غاضبة، وأعمال عنف، بالإضافة إلى تصريحات رسمية شديدة اللهجة.

اعتذرت الصحيفة اعتذاراً موارباً.

هدأت الحدة مع الوقت، وعدنا نستهلك الزبدة الدنماركية وكريمات الفيوسيدين!

***

ها هي فرنسا تتنكر لقيم ثورتها (حرية، إخاء، مساواة)، وتخبر المسلمين على مدى سنوات أن حريتها استنسابية، وأن الإخاء نادٍ حصري، وأن المساواة مسألة فيها نظر، تناكفهم على الحجاب والنقاب، تسمح لـ«شارلي ايبدو» سيئة الذكر أن تستسخر من نبيهم برسومها.

وتظل فرنسا تستغضب المسلمين إلى أن يأتي فتى مسلم ويتهور ويردي مدرّساً عرض الرسوم المسيئة للنبي - عليه الصلاة والسلام - لطلبته في درس تاريخ.

ونحن قطعاً لا نقرّ ما فعل الفتى ولا نشجع، لكن لا يجوز أن نغفل السياق الذي حدث فيه ما حدث.

يخرج الرئيس الفرنسي مكابراً معلناً استمساكه بالرسوم المسيئة، ويصف هذه الحادثة الفردية بأنها «هجوم إرهابي إسلامي».

ثم يأتي وزير الداخلية الفرنسي ويمعن في أذية مشاعر المسلمين، فيقول إنه منزعج من وجود المنتجات الحلال في المحلات.

ماذا نفعل إزاء هذا؟ لا خيار سوى المقاطعة.

وعلينا أن نعي أن المقاطعة الاقتصادية ليست وسيلة ضغط بالضرورة، لذا علينا ألّا نتوقع أن ينهار الاقتصاد الفرنسي جرّاءها مثلاً، أو حتى يتأثر بشدة، فلنكن واقعيين. المقاطعة وسيلة امتعاض، هي أداة إعلامية تستخدمها الشعوب لتوصل رسالة مفادها أنّ مشاعرها جُرحت، وأنّ تكرار ما حدث غير مقبول.

المقاطعة وسيلة تحتاج نفساً طويلاً، ونتائجها الآنية صعبة القياس، كما أنّ ذاكرة الناس ضعيفة، والمثبطون من بني جلدتنا موجودون.

لكنها - صدقوني - مجدية.

وحتى لو لم تكن ذات جدوى، هي وسيلتنا الوحيدة المتاحة لإنكار ما حصل، ننكر بقلوبنا، وبألسنتنا، وبمقاطعتنا.

آخر ما نتمناه إلحاق الخسارة بالتاجر المحلي، الذي صادف أنه يستورد بضاعة فرنسية أو يملك وكالتها.

ونتفهم أن بعضهم مضطر للاستمرار في بيعها نتيجة عقود ملزمة.

لكننا في المقابل نتوقع منه أن يراسل الشركة الأم لإخبارها بأمر المقاطعة الجارية، التي قد تؤثر على طلباته المستقبلية من البضاعة.

هذا كل ما نريد.

وستظل المقاطعة ردة فعل عاطفية غاضبة، إلى أن تتبناها جهة تتمكن من تجييرها لتتحول إلى ثمرة تشريعية.

وقرأت مقترحاً لأحد الزملاء مفاده أن تفضي المقاطعة إلى إصدار قانون تجريم الإسلاموفوبيا على غرار قانون تجريم معاداة السامية.

وهذا نضال يقوم به مسلمو فرنسا، ولهم منا نصرتهم بالمقاطعة، هذا وُسعنا.

للمقاطعة جناح آخر نغفل عنه، جناح وازن.

كل هذه الضجة التي ستثيرها المقاطعة ستثير من دون شك فضول الكثيرين حول العالم.

من محمد هذا؟ ولماذا يحبه أتباعه إلى هذا الحد؟ سيتساءلون عن الإسلام، وعن مدى دقة ما يظهر عنه في وسائل إعلامهم.

بعضهم قد يمضي في رحلته ذاتياً، لكن بعضهم الآخر سيحتاج أن نتوجه إليه.

هذه فرصة مواتية أتتنا من حيث لا نحتسب لنعرّف العالم بديننا وبنبينا.

هذا أوان إنتاج الأفلام، والوثائقيات، والمقالات، والكتب.

هذا أوان أن نصلّي على النبي بكل اللغات، وبكل السبل.

وإلى أن يحدث كل هذا، سنتوقف عن لزوم عطور فرنسا، وسنحجم عن شراء حقائبهم الثمينة ومجوهراتهم الفاخرة، وسنحمي أنفسنا عن أجبانهم بأنواعها الـ246 (والرقم على ذمة دوغول)، وسنمتنع عن تناول الماكارون الفرنسي الشهير.

نعم، رحلة الانتصار لمعتقداتنا قد تبدأ بأمر بسيط كالامتناع عن قرص ماكارون ملون شهيّ.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي