خلال أسبوعين شاهدنا جلستي تأبين لفقيد الكويت أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد، الأولى لمجلس الأمة الكويتي والثانية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وبين الجلستين، فرق لا تحده الكويت شرقاً ولا نيويورك غرباً، هو فرق بين حضارتين: حضارة الأقوال وحضارة الأفعال، تراث العواطف وتراث المواقف، عادات الدموع وتقاليد المراثي ونهج الصمت والوقوف حداداً، وبين النقيضين: الحزن واحد وإن تعدّد الصدق أو الكذب فيه.
لنبتعد قليلاً عن الحدث ونقترب من أسبابه، يقول درويش: الموت لا يوجع الموتى الموت يوجع الأحياء، ويتفاوت الأحياء في التعبير عن آلامهم، ثمة من يقول إنّ الصراخ على قدر الألم وثمة من يرى أنّ التبلّد أقصى حالات الألم، على أي حال من حق أي شخص يتألم أن يعبّر عن آلامه بالطريقة التي تريحه.
على الأقل لنتفق، المشاعر للأحياء والمواقف للموتى، لذلك قيل: اذكروا محاسن موتاكم، لكن البعض تختلط عنده المحاسن بالمحاسن، فعوضاً عن ذكر محاسن الميت يذكر محاسنه هو، ويدعي مشاعر لا يعنيها، مشاعر أدركها بعد فوات الأوان، دون أن يفرج عنها في حضرة من يستحقها، وكأنّ كل ما عليك حتى تعرف حب الناس لك أن تموت!
يبالغ الناس في حجب مشاعرهم للأحياء، وحين يموتون ينهمرون فيبوحون حين لا ينفع البوح، حين لا يرد عليك إلا الصدى، أو جمهور يتغزّل بعاطفتك المبنية للمجهول، وهو ضمير غائب عائد على راحل إلى ذمة الله، ويبقى الكلام في ذمتنا لا يصل إلى وجهته.
عبّروا عن مشاعركم للأحياء فحين يرحلون لن يعرفوا ماذا شعرتم تجاههم، وستندمون لأنّكم لم تمنحوهم الحب الذي استحقوه، وحين تضيق المساحة ويزداد البعد تتسع العبارة، ويكثر الكلام فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
هذا باختصار الفرق بين تأبين من اعتاد الفضفضة ومن اعتاد الكتمان، الأول لن يبقى لديه ما يقوله سوى ما قلّ ودلّ، والثاني سيفرج عما كتمه أضعافاً مضاعفة، لا تعوض البعد ولا الفقد ولا الكتمان، ويظل دوماً جزءٌ من النص مفقوداً.