تشكل قضية تايوان إحدى أكثر الملفات حساسية في النظام الدولي المعاصر ليس فقط بسبب بعدها السيادي بل لما تمثله من اختبار حقيقي لتوازن القوى بين الولايات المتحدة والصين، ومع تصاعد الحديث عن تحولات في أولويات واشنطن خصوصاً في عودة ترامب إلى البيت الأبيض يبرز تساؤل جوهري حول مستقبل الالتزام الأميركي بأمن آسيا–الباسيفيك، وما إذا كانت تايوان قد تجد نفسها في قلب معادلة دولية أقل صلابة مما كانت عليه خلال العقود الماضية.

منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية ظلت تايوان نقطة تماس دائمة بين بكين وواشنطن، فالصين تنظر إلى الجزيرة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها وتعد مسألة إعادة التوحيد هدفاً إستراتيجياً غير قابل للتنازل وإن اختلفت الوسائل والتوقيت.

في المقابل، تبنت الولايات المتحدة سياسة الغموض الإستراتيجي فدعمت تايوان سياسياً وعسكرياً دون اعتراف رسمي باستقلالها وفي محاولة لردع الصين ومنع تايوان في الوقت نفسه من اتخاذ خطوات أحادية تغير الوضع القائم.

إلا أن هذا التوازن الدقيق بات يواجه تحديات متزايدة، فالصين اليوم ليست هي الصين قبل عقدين فهي قوة اقتصادية كبرى وتمتلك قدرات عسكرية متطورة وتسعى إلى توسيع نفوذها الإقليمي والدولي بثقة أكبر.

في هذا السياق، لم يعد ملف تايوان مجرد قضية سيادية بالنسبة لبكين بل عنصراً محورياً في مشروعها الأوسع لإعادة تشكيل النظام الدولي وتقليص النفوذ الأميركي في محيطها الجغرافي المباشر.

في المقابل تبدو الولايات المتحدة أمام مرحلة مراجعة شاملة لأولوياتها الإستراتيجية والانشغال بالحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط، إضافة إلى الاستقطاب الداخلي الحاد والضغوط الاقتصادية كلها عوامل تدفع واشنطن إلى إعادة ترتيب مسار تدخلها الخارجي. ويكتسب هذا التوجه بعداً أكثر وضوحاً في خطاب دونالد ترامب، الذي يركز على تقليص كلفة الالتزامات العسكرية الخارجية، ويدعو الحلفاء إلى تحمل أعباء أكبر مقابل الحماية الأميركية.

ضمن هذا الإطار، يبرز احتمال تراجع التركيز الأميركي على منطقة آسيا–الباسيفيك، أو على الأقل الانتقال من سياسة الردع المباشر إلى إدارة المخاطر بأدوات أقل كلفة. مثل هذا التحول إن حدث، لا يعني بالضرورة تخلياً كاملاً عن تايوان لكنه قد يضعف مصداقية الضمانات الأمنية الأميركية ويفتح المجال أمام بكين لاختبار حدود الرد الأميركي سواءً عبر ضغوط سياسية واقتصادية متصاعدة أو من خلال خطوات عسكرية محسوبة.

إمكانية ضم تايوان إلى الصين لا تزال في المدى القريب سيناريو معقداً ومحفوفاً بالمخاطر، أي تحرك عسكري واسع سيحمل كلفة عالية على الصين نفسها اقتصادياً ودبلوماسياً، وقد يؤدي إلى اضطراب عميق في الاقتصاد العالمي.

إلا أن التاريخ السياسي يظهر أن التحولات الكبرى غالباً ما تحدث في لحظات الفراغ أو التردد الإستراتيجي، لا في أوقات الردع الواضح والحاسم ومن هنا، فإن تراجع الانخراط الأميركي أو غموض نواياه قد يقرأ في بكين باعتباره فرصة أو على الأقل نافذة زمنية قابلة للاستثمار.

في هذا السياق، تبدو تايوان أكثر اعتماداً على قدرتها الذاتية في تعزيز دفاعاتها وتنويع شراكاتها الدولية وبناء شبكة أوسع من العلاقات الاقتصادية والسياسية التي ترفع كلفة أي محاولة لفرض الأمر الواقع، كما أن دول الإقليم مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا تتابع تطورات هذا الملف بقلق بالغ لما يحمله من انعكاسات مباشرة على أمنها القومي وعلى مستقبل التوازن في شرق آسيا.

خلاصة القول، إن ملف تايوان يقف اليوم عند تقاطع حساس بين صعود صيني واثق وانشغال أميركي يعيد ترتيب أولوياته العالمية، وبين هذين المسارين تتشكل معادلة جديدة لا تقوم بالضرورة على الصدام المباشر بل على اختبار الإرادات وحدود الالتزام وفي عالم يتجه نحو تعددية قطبية قد تكون تايوان أحد أبرز المؤشرات على شكل النظام الدولي المقبل وعلى مدى قدرة القوى الكبرى على إدارة خلافاتها دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.