موجةُ البرد التي تهبّ علينا تُثير في الوجدان تأمّلاتٍ لا تنتهي.

فالشتاء في الكويت ليس مجرّد انخفاضٍ في درجات الحرارة، بل حالةٌ شعورية تتسلّل إلى الجسد والذاكرة معاً. هو ضيفٌ لا يطيل المكوث بيننا، لكنّه إذا حلّ غيّر إيقاع الحياة، وفرض على الناس طقوساً جديدة، من المعاطف الثقيلة إلى دفء المواقد، ومن السكون المبكر إلى الحنين الطويل.

يوقظ البرد فينا إحساس الهشاشة؛ فالجسد، مهما بدا قويّاً، ينكمش أمام لسعة الريح. لكنه، في الوقت ذاته، يوقظ قيماً أخرى: التضامن، والبحث عن الدفء الجماعي، والاقتراب من العائلة.

في ليالي الشتاء الباردة تتقارب الأجساد حول مدفأةٍ أو فنجان قهوة، وتتعانق الحكايات كما تتعانق الأيدي. وحين كنّا في زمن الدراسة خارج الوطن، كانت الغربة والحنين إلى الأهل يشتدّان علينا في أمسيات البرد وعصف الرياح.

ومن جهةٍ أخرى، للبرد أثره الصحي الواضح؛ فهو امتحانٌ لجهاز المناعة، وقد يكون قاسياً على كبار السنّ والأطفال. لكنه يحمل أيضاً جانباً إيجابياً، إذ يخفّف من بعض الحشرات، ويمنح الأرض فرصةً للراحة، ويهيّئ التربة لمواسم الخصب القادمة. كأنّ الطبيعة، ببرودتها الموقتة، تعيد ترتيب أنفاسها.

ثقافياً، ارتبط البرد في الوجدان العربي بالشعر والحنين. يقول النابغة الذبياني، في وصف ريحٍ وبردٍ قارس:

كأنّ صِلالَ الأرضِ قد سُلَّ سيفُها

عليهم إذا ما هبَّتِ الريحُ زَعزَعَا

فهو يُشبّه قسوة الريح وحدّتها بحدّ السيوف المسلولة.

أمّا جرير، فيقول:

والشِّتاءُ يَغُضُّ الطَّرفَ من قِرِّهِ

حتى كأنَّ عظامَ القومِ تَصطَكُّ

ويقول الفرزدق، واصفاً شدّة البرد:

نبيتُ على قِرٍّ كأنَّ جلودَنا

إذا مَسَّها ليلُ الشِّتاءِ حَديدُ

فالشتاء ليس فصلَ قسوةٍ فحسب، بل فصلُ تأمّلٍ أيضاً؛ حيث يقلّ الضجيج، وتعلو الأصوات الداخلية.

وهكذا، يبقى البرد رسالةً مزدوجة: قسوةٌ في الظاهر، ودفءٌ مستترٌ في العمق. يعلّمنا أن نبحث عن المعنى خلف الألم، وعن القرب وسط القسوة، وأن ندرك أنّ بعد كل بردٍ قارس... ربيعاً لا بدّ أن يأتي.

فلنستمتع بأيامه القصيرة في أرضٍ تعرف قيمة الهواء البارد، وتشتاق إليه.