عزيزي القارئ...! تخيل معي هذا المشهد... أنت جالس في كرسي طائرة «فيرست كلاس»، تمسك كأس عصير برتقال فريش، في رحلة إلى هوليوود من أجل أن تتسلم جائزة، والجميع يعاملك على أنك «أيقونة»... ولكن في اللحظة نفسها، أنت داخلك «طفل صغير» مرعوب، يشعر أنه «نصاب» وأن الجميع مخدوع فيك، وأنك لو عدت إلى البيت، ستجد نفسك وحيداً تماماً ولا أحد يستطيع أن يفهمك!
هذه الحالة عزيزي القارئ! ليست سيناريو فيلم دراما كئيباً... بل هي حياة واحدة من أعظم ممثلات القرن العشرين، ليف أولمن، وهذا ملخص الكتاب الذي نتناوله اليوم.
من هي ليف أولمن، ولماذا كتابها «قنبلة»؟
ليف أولمن، لكل من لا يعرفها، هي ملهمة المخرج الأسطوري إنغمار برغمان... امرأة جميلة، ناجحة، أيقونة في السينما العالمية، وينبغي أن تكون حياتها «لوز العنب»... أليس كذلك؟ في كتابها «أتغير» لا نجد مذكرات فنانة تقليدية تخبرك أنها «كافحت ونجحت والجمهور يحبها»... لا، الكتاب أشبه بجلسة تعذيب نفسي أو اعترافات منتصف الليل... ليف أولمن هنا تنزع «الماسك».
في علم النفس، كارل يونغ، أخبرنا أننا جميعاً نرتدي «أقنعة» (Persona) من أجل أن نتعامل مع المجتمع، ولكن ليف أولمن في هذا الكتاب تقول لنا: «أنا الممثلة التي تجيد تمثيل كل الأدوار على المسرح، ولكنها تفشل في تمثيل دور المرأة السعيدة في الحقيقة».
أهم الأفكار في كتاب «أتغيَّر» هي «الطفلة التي ترفض أن تموت» وهذه جملة عبقرية في الكتاب. ليف تخبرنا أن داخلها طفلة صغيرة، خائفة، تحتاج الأمان، تحتاج «أباً» (لأن أبوها توفي وهي صغيرة). وهذه الطفلة هي التي تتحكم في قرارات ليف الكبيرة، وقد مارست التمثيل من أجل هذه الطفلة لكي يراها الآخرون ويحبوها... لكن المشكلة أن التصفيق لا يُشبع الطفلة، يسكتها قليلاً فقط.
تُحدثنا عن الحب، أو «السجن الاختياري» وهذا الجزء عزيزي القارئ! «توكسيك» جداً. تحكي عن علاقتها بـ إنغمار برغمان (التي تسميه في الكتاب أحياناً «الرجل الذي أحببته»). عاشت معه في جزيرة معزولة (جزيرة فارو)، بنيا بيتاً، وعاشا في عزلة تامة. كانت تعتقد أن الحب هو «الاندماج الكامل»، أن تصبح هي وهو شخصاً واحداً. ولكنها اكتشفت أن هذا «محو للذات». هي تجلس في مكتبه، ترسم قلوباً ودموعاً على الباب، تنتظره ينتهي من عمله من أجل أن يعطيها فتات اهتمام. حب تحول لسجن، وهي كانت السجان والمسجون في الوقت ذاته!
تحدثنا أيضاً عن «عقدة الذنب» عند الأم العاملة... وتجلد ذاتها في الكتاب. هي تحب ابنتها «لين» جداً، ولكن عملها يخطفها. تسافر لتصور فيلماً، وتتحدث مع ابنتها في التلفون. البنت تبكي، يتقطع قلب الأم حزناً. الصراع الأزلي بين «تحقيق الذات» وبين «الأمومة». ليف تعترف بصدق مرعب أنها أحياناً كانت تتمنى الهروب من مسؤولية الأمومة، وفي الوقت نفسه خائفة من أن تنساها ابنتها وتستبدلها بالمربية.
ولكن عزيزي القارئ! لماذا اخترت لك هذا الكتاب اليوم، وما هو المميز فيه؟ ببساطة البشر بطبعهم فضوليون، ولكن ليس فضول النميمة بل فضول «المعاناة المشتركة».
كل الذين قرأوا كتاب «أتغيَّر» أحبوه، لأنه كتاب «عريان» من دون فلاتر. ليف أولمن، كتبت مخاوفها التي نخاف أن نهمس بها بصوت عال.
عندما تقرأ أن نجمة عالمية تجلس في فندق فخم وتشعر بوحدة قاتلة، وأنها تنتظر مكالمة من رجل لا يقدرها، وأنها تبتسم للكاميرات وهي تصرخ من الداخل، فنحن نشعر أننا «لسنا وحدنا». الكتاب يعالج «عدم الأمان» الذي نشعر به جميعاً أحياناً.
في الواقع كلنا «ليف أولمن» ولكن على «إنستغرام».
ليف أولمن، كانت تعاني من التناقض بين «الصورة العامة» (النجمة) وبين «الحقيقة» (المرأة الوحيدة الخائفة). نحن اليوم نعيش في «سيرك» كبير كالذي وصفته أولمن... كل واحد منا لديه «بروفايل» (الماسك). نضع صورنا ونحن نضحك في فعالية، ونكتب «بوستات» عميقة عن النجاح، ونصور أكلنا في مطاعم راقية، الجمهور (الفلورز) يقوم بما عليه القيام به... لايك وشير (التصفيق)!
ولكن أين الحقيقة عزيزي القارئ؟!
الحقيقة أننا مثل ليف أولمن بالضبط... يمكن أن نكون جالسين في غرفنا، نرتدي بيجامة مهترئة، نأكل صمونة من مطعم، ونشعر بوحدة رهيبة، ولكنا نشارك «ستوري» تقول «Good Vibes Only».
بصوت الفنان أحمد زكي، سأخبرك عزيزي القارئ! «كلنا ليف أولمن ياعزيزي»! نبحث عن القبول، فهي كانت تمثل من أجل أن يحبها الناس. ونحن نشارك صوراً من أجل الناس وأخذ «Love» الطفلة التي داخل ليف أولمن وتريد اهتماماً، هي نفسها «الإيغو» الذي لدينا ويتغذى على «النوتيفيكيشن» لكي يشعر بقيمته.
ليف أولمن كانت تجلس في حفلات عشاء، الناس فيها يرتدون مجوهرات وبدلاً، ويأكلون (Lobster)، ولكن الجميع كان كارهاً للجميع، وكل شخص ينظر لنفسه في انعكاس الملعقة... أليس هذا ما يحدث في التجمعات والزوارات؟! يجلسون، ولكن كل شخص محشور في موبايله، نصور التجمع من أجل أن نثبت للناس أننا سعداء، لكننا في الواقع غير متواصلين، نمثل السعادة تماماً مثلما كانت أولمن تمثل دور «نورا» في مسرحية بيت الدمية.
ليف أولمن اكتشفت أنها يجب أن تتغير، يجب ألّا تكون «ملحق» للرجل، ويجب أن تتوقف عن تمثيل دور الضحية، ويجب أن تواجه وحدتها، ونحن كذلك يا عزيزي! يجب أن نتغير... نحتاج إلى إدراك أن «الماسك» الذي نرتديه يخنقنا، وأننا لسنا في حاجة لأن نكون مثاليين، ولا أمهات وآباء خارقين، ولا نجوم مجتمع من أجل أن يحبنا الأخرون، نحتاج إلى التصالح مع «الطفل» الذي بداخلنا بدلاً من إسكاته بـ «لايك» أو «فلتر».
كتاب ليف أولمن، يخبرنا أن الحياة هي اللحظات الصعبة التي نقرر فيها أن «نتغير»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.