تَرتسم في الطريق إلى بدايةِ السنة الجديدة ملامح مَساريْن شديديْ التعقيد والخطورة يَضعان لبنان أمام اختبارٍ هو الأقسى لمدى قدرته على المضيّ في «شراء الوقت» واجتراح أدواتِ إقناع الخارجِ بإمكان ترجمة قرار حَصْرِ السلاح بيد الدولة بمفهومه الـ «ماكرو» بـ «القوة الناعمة» ومن دون استجرارِ حربٍ جديدة لتنفيذه بـ «القوة الخشنة».
المسارُ الأول بين لبنان وإسرائيل ويقوم على «عدِّ الأيام» الفاصلة عن نهاية ديسمبر، الموعد الذي كانت التزمت به بيروت لجعل جنوب الليطاني منطقة منزوعة السلاح وتالياً «خَتْمُ» المرحلة الأولى من الخطة التي وَضَعَها الجيش اللبناني في 5 سبتمبر لتنفيذ قرار الحكومة بتفكيك ترسانة «حزب الله» (وكل سلاح غير شرعي) من كل البلاد.
والمسارُ الثاني بين الحكومة اللبنانية و«حزب الله» ويَحْكمه «عضُّ أصابع» بدأت طلائعُه تَلوح على خلفيةِ إشاراتٍ من الرئيس نواف سلام وكأنها «ضوء برتقالي» للانتقال بدايات السنة لمرحلة شمال الليطاني، وتحديداً «بين ضفتي نهر الليطاني جنوباً ونهر الأولي شمالاً»، في مقابل «غضبة مكتومة» من الحزب بإزاء خطوة من شأنها إحراجه تجاه الداخل والخارج.
ويَتَشابَكُ هذان المَساران في شكلٍ يجعل من الصعب على العارفين كما «عرّافي» نهاية السنة، الجزم بما سيكون على صعيد احتمالات التصعيد الكبير الذي يطبع وهجُه المشهد اللبناني الذي بات في الأيام الأخيرة وكأنه يمارس «لعبة الأقحوان»: حرب، لا حرب، في الوقت الذي يبقى الجواب اليقين على طريقة... «المَعنى في قلب الشاعر».
وعلى ضبابيةِ اللحظة خصوصاً في ضوء تَداخُلِ الواقعِ اللبناني مع المَسْرِحِ الإقليمي الشديد الوعورة والخطورة، فإن أوساطاً سياسية استشرفت الاحتمالاتِ انطلاقاً من مواقف وسلوكيات و«مخططات» الأطراف الثلاثة «المعلَنين» المعنيين بها، وفق الآتي:
- الحكومة اللبنانية التي بدت وعبر إعلان رئيسها «الجاهزية» للانتقال إلى مرحلةِ شمال الليطاني ومع اعتبار «أن المرحلةَ الأولى من خطة حَصْرِ السلاح المتعلّقة بجنوب نهر الليطاني باتت على بُعد أيام من الانتهاء» وكأنّها تحاول شقَّ «ممرّ جديد» يكون «مَفَرّاً» من حربٍ تَضَعُ إسرائيل الإصبعَ على زنادها بحجة أن بيروت وجيشها غير جدّييْن في تنفيذ التزامهما بسحب سلاح «حزب الله».
ويسود اعتقادٌ أن وضْع سلام «أضواء كاشفة» على مرحلة شمال الليطاني هو في سياق ملاقاةِ اللقاء الذي يُعقد بعد 7 أيام بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتزويد الأوّل بمزيد من عناصر «التهدئة من روع» تل أبيب التي تَمْضي في عملية «الترويع النفسي» للبنان بحرب كأنها واقعة غداً وكانت أرجأتْها حتى نهاية السنة بتمنٍّ أميركي.
وقد كرر سلام في تصريح لصحيفة «الشرق الأوسط» أن المرحلة الثانية بعد جنوب الليطاني «ستكون بين ضفتي نهر الليطاني جنوبا ونهر الأولي شمالاً، فيما ستكون المرحلة الثالثة في بيروت وجبل لبنان، ثم الرابعة في البقاع، وبعدها بقية المناطق»، مؤكداً «أن ما قام به الجيش اللبناني أدى إلى بسط سلطة الدولة بالكامل على المنطقة الممتدة من جنوب النهر وصولاً إلى الحدود الجنوبية، ما عدا النقاط التي تحتلها إسرائيل، التي يجب أن تنسحب منها دون إبطاء».
وإذ رَفَضَ الحديث عن الخطوات التالية للحكومة قبل تَسَلُّم تقرير الجيش التفصيلي عن نتائج عملية حصر السلاح في جنوب الليطاني وعرضه على مجلس الوزراء في 5 أو 6 يناير، فإنّه أوحى بأنّ عدم قيام إسرائيل بخطواتٍ مقابل ما قام به لبنان جنوب الليطاني (الانسحاب، أو وقف الاعتداءات) لا يَمنع الانتقال إلى شمال النهر، وهو الموقف الذي عَكَسَ استشعاراً من بيروت بحراجة اللحظة وأن ثمة حاجة مُلِحّة لتحويل مرحلة «ما بين النهرين» خط حماية للبنان من الوقوع «بين ناريْ» تصعيد عسكري إسرائيلي و«نفض يد» ربما أميركي.
واعتُبر موقف سلام أيضاً مؤشراً إلى أن أي «تمديدٍ تقني» لمرحلة جنوب الليطاني لمزيدٍ من اختبارِ «آلية التحقق» من «تنظيف» هذه البقعة (وعدم عودة الحزب إليها لاحقاً) لن يَمنع تدشين مرحلة شمال الليطاني، على أن يُحسم الأمر داخل الحكومة وبعد اتصالاتٍ ستتكثف مع الداخل والخارج، وسط اعتقادٍ بأن إلحاح رئيس الحكومة في هذا الإطار يتصل كذلك بمقتضيات ملاقاةِ الخطوة الإيجابية التي شكّلها توافق باريس وواشنطن والرياض على عقد مؤتمر دعم الجيش في فبراير بحيث باتت الفترة الفاصلة عن هذا الموعد بمثابة «اختبار تلقائي» لمدى جدية لبنان الرسمي في المضيّ بما «رسمتْه» في وعْد سحب السلاح من كل البلاد.
- «حزب الله» الذي بكّر في «إطلاق النار» على رئيس الحكومة على خليفة إعلانه «المرحلة الأولى من حصر السلاح ستنتهي قريباً، وجاهزون للانتقال للمرحلة للثانية شمال الليطاني»، حيث أعلن القيادي فيه الوزير السابق مصطفى بيرم عبر منصة «أكس»: «بالفعل معها حق (الموفدة الأميركية مورغان) أورتاغوس عندما اعتبرت أن هذه أكثر حكومة ملتزمة بخدمة مصالح إسرائيل وفرصة لا تتكرر. فالرجل يبرئ العدو من كل جرائمه وبتنازلات مجانية ويعفيه من التزاماته».
ورأت أوساط سياسية أن هذا الموقف يؤشر إلى «ربط نزاع» استباقي مع الحكومة اللبنانية يقوم به حزب الله «على خط» الأوّلي، ليس فقط لأن هذه تُعتبر منطقة بالغة الأهمية العسكرية والأمنية للحزب، بل أيضاً لأنّه سبق أن أكد أن القرار 1701 واتفاق وقف النار (27 نوفمبر 2024) يشملان جنوب الليطاني حصراً، وأن شمال النهر هي مرحلة يبدأ النقاش فيها بعد أن تنسحب إسرائيل وتوقف الاعتداءات وتطلق الأسرى، على أن تكون مرجعية هذا النقاش حوارا داخل لبنان حول الإستراتيجية الدفاعية وليس أي إطار ناظم يرتكز على قرارات دولية (1559 وأخواته) أو اتفاق 27 نوفمبر أو أي تفاهمات أمنية مع إسرائيل وإن عبر الولايات المتحدة من خلال «طاولة الميكانيزم» حمّالة الأدوار.
وفي هذا الإطار، يسود اعتقاد أن الحزب ربما يستبق جلسة الحكومة في الأسبوع الأول من السنة بإصدار بيان يعلن فيه تنفيذه الشقّ المتعلق به من القرار 1701، واتفاق 27 نوفمبر «وفق تفسيره له»، مع دعوة إسرائيل إلى التزام ما يتوجّب عليها من هذا الاتفاق.
ووفق هذا الاعتقاد، فإن الحزب قد يتفادى أن يعلن صراحة رفْض المساس بسلاحه شمال الليطاني بل يعمد إلى «إلباس» هذا الرفض - الذي يرتكز في عمقه على موجباتِ الإبقاء على «أدواتِ إسنادِ» إيران بوجه «شبح الحرب» الجديدة المحتملة ضدها – شَكْلَ تكرارِ الاستعداد لفتْح نقاش داخلي حول السلاح الباقي من ضمن آلية الحوار الداخلي، اي محاولة رمي الكرة في ملعب إسرائيل وعلى قاعدة التنصّل من المسؤولية عن استدراج اي ضربة كبيرة من تل أبيب يُخشى أن ترتفع احتمالاتها فور تبيان هذا الموقف والذي سيضع حكومة سلام أمام خيارات صعبة في حال مضت بخيار الانتقال إلى شمال الليطاني او «اختبأت» وراء التمديد التقني جنوبه.
- أما إسرائيل فتستمرّ في توجيه الرسائل «الحربية» والتي كررتها عبر مصدر عسكري أكد «أن الجيش يستعد لتوسيع عملياته العسكرية في لبنان، وذلك غداة إعلان وزير المال بتسلئيل سموتريتش» أن إسرائيل قد تضطر إلى شن عملية في غزة ولبنان قبل الانتخابات، ومجدّداَ التأكيد على منع «حزب الله» من استعادة قوته.
ولم يقلّ دلالة ما أعلنه السيناتور الأميركي ليندسي غراهام بعد لقائه نتنياهو من أن الانطباع السائد في واشنطن هو أن «حماس» و «حزب الله» لا ينزعان سلاحهما بل يعيدان التسلّح، محذراً من أن هذا المسار يشكّل «نتيجة غير مقبولة»، وهو ما وافقه فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وفي موازاة ذلك، استوقف الأوساط السياسية ما أعلنه نائب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية الجنرال أحمد وحيدي من أن إسرائيل لا تجرؤ على خوض حرب برية مع «حزب الله»، مشيراً إلى أن المواجهة تقتصر على ضربات جوية من مسافات بعيدة، مع ما يرافقها من سقوط مدنيين.