«قد مات قومٌ وما ماتت فضائلهم، وعاش قومٌ وهم في الناس أموات»... هذا البيت الشعري للإمام الشافعي، يُلخّص مسيرة الفقيد خالد سليمان الجارالله الذي رحل عن الدنيا، لكن فضائله وأعماله الخيّرة بقيت حيّة تتناقلها الألسن وتستضيء بها الأجيال، فكأن رحيله كان جسداً فقط، أما ذكره وأثره فمازالا قائمين.
أثرت المكتبة الكويتية بكتاب جديد يوثق هذه السيرة العطرة تحت عنوان «خالد سليمان الجار الله... رجل الدولة الهادئ» بقلم الكاتبة العنود الشرهان باللغتين العربية والإنكليزية، واحتوى صوراً نادرة وشهادات مضيئة عن محطات إنسانية ومهنية شكّلت ملامح مسيرة الراحل.
الكتاب لم يكتف برصد المناصب التي تقلّدها الفقيد، بل رسم صورة شاملة عن إنسان حمل القِيَم في قلبه، وكرّس حياته لخدمة وطنه بروح متفانية وهدوء راسخ.
كان خالد الجارالله شخصية وطنية راسخة، أثرى الدبلوماسية الكويتية بحضوره المتزن، واتسم عمله الوطني بوعي جعل منه عنواناً للرقي والوفاء، ورمزاً للعطاء والإخلاص.
سيقف التاريخ طويلاً عند مسيرة هذا الرجل الاستثنائي الذي حمل الكويت في قلبه وفكره، وجعل منها محور عطائه وغاية جهده.
ورغم رحيله، ستظل سيرته ومآثره الخالدة حية في وجدان الأجيال، لتؤكد أن أثر الرجال العظام أبقى من أعمارهم، وأرسخ من حدود الزمان.
القدوة
في مقدمة الكتاب، كتب نجله باسل الجارالله مقدمة بعنوان «الحازم الباسل»، أورد فيها ملامح الأب والمعلم والقدوة، وتحدث عن النزاهة والأمانة والتواضع كقِيَم أساسية نهلها منه، وتطرّق إلى ذكريات جسّدت مدرسة إنسانية وأخلاقية سيبقى تأثيرها حاضراً في وجدانه.
الصلابة الإنسانة والوطنية
يتناول الإصدار شخصية الجارالله بوصفه قارئاً نهماً متابعاً لشؤون العالم وسِيَر القادة وتجارب التاريخ. استلهم الكثير من مدرسة الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، طيب الله ثراه، الذي أرسى قواعد الدبلوماسية الكويتية الحديثة، وتعلّم من الراحل عبدالرحمن العتيقي.
جمع الجارالله بين الحزم واللين، مع رؤية بعيدة المدى جعلته حاضراً في المواقف الكبرى بكفاءة عالية، ليبقى نموذجاً للدبلوماسي الذي يوازن بين الصرامة الإنسانية والصلابة الوطنية.
مواقف إنسانية
الكتاب يسرد مواقف إنسانية تكشف جانباً آخر من شخصيته. فقد كان صاحب مبادرات للخير أنجزها بعيداً عن الأضواء، ونصائح صادقة أثرت في قرارات مفصلية لعدد من الأشخاص الذين التقوه في محطات مهمة.
وبعد رحيله، ظل اسمه مقروناً بأعمال خيرية كحفر الآبار وبناء المساجد ودور تحفيظ القرآن، كأن أثره قرّر أن يمتد حتى بعد أن غاب جسده.
ذاكرة وطنية
الجارالله كان حاضراً في أصعب الأوقات وأكثرها حساسية. شارك في أزمات وطنية ومفاوضات محورية رسخت مكانة الكويت في المحافل الدولية. اعتمد على هدوئه واتزانه كأدوات عمل، وساهم في بناء صورة دبلوماسية تعتمد الصبر والثقة. وارتبط اسمه بالمواقف التي تحتاج إلى حكمة، وباللحظات التي كانت تستدعي قيادة متوازنة.
بدر الجارالله يروي اللحظات الأخيرة
روى بدر سليمان الجارالله اللحظات الأخيرة لرحيل الفقيد خالد سليمان الجارالله، قائلًا: «جاءني اتصال من ابنه البكر حازم مساء يوم الأحد 23 رمضان، يُخبرني بسقوط والده في مسجد الفارس الملاصق لجمعية ضاحية عبدالله السالم، بعدما أنهى صيامه بتمرة وتوجه لأداء صلاة المغرب. كان قلبه متعباً، فاستدعيت سيارة الإسعاف التي نقلته إلى طوارئ مستشفى الأميري. لم تتجاوز محاولات الإسعاف ثلاث ساعات، ليبلغنا الأطباء أن ساعة رحيله قد أزفت. رحل كما عاش، في هدوء وطمأنينة، وكأنه يقول: لا أريد أن أتعب أحداً».
وأضاف بدر الجارالله أن مسيرتهما معاً امتدت منذ الطفولة في منطقة الصالحية بجبلة، مروراً بمدرسة المثنى الابتدائية ثم الشامية المتوسطة، فثانوية كيفان بعد انتقال العائلة للسكن هناك. وفي الجامعة جمعتهما كلية التجارة والاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الكويت، حيث اختار الراحل تخصص العلوم السياسية شغفاً بالسياسة والفكر القومي الناصري، بينما اختار بدر علوم الإدارة.
ويتابع بدر: «بعد التخرج، التحق خالد بوزارة الخارجية مطلع السبعينيات، في تخصص أشبع شغفه السياسي والفكري. بدأ حياته العملية سكرتيراً ثانياً في سفارة الكويت ببيروت إلى جانب السفير الراحل محمد العدساني، الذي كان مدرسةً احتضنت (بوحازم)، كما رافقه زميله أحمد الفهد. ومن هناك تدرّج في المناصب حتى أصبح مديراً لإدارة مجلس التعاون، ثم وكيلاً لوزارة الخارجية، وأخيراً نائباً للوزير. امتدت مسيرته الدبلوماسية خمسة عقود متواصلة قبل أن يتقاعد قبل ثلاث سنوات».
صديق العمر: خُلقٌ رفيع وحبٌ للوطن
في وداع مؤثر، عبّر صديق الراحل عادل الطخيم عن حزنه العميق، قائلاً: «فقدتُ أخي ونسيبي وصديقي خالد الجارالله، وفقده معي كل مَنْ عرفه وعاشره. فقد جسّد المعنى الحقيقي للخلق الرفيع والحب العميق لوطنه، وعشق العمل الدبلوماسي الذي كرّس حياته من أجله. خدم وطنه كما لم يخدمه أحد، وكان خدوماً لكل مَنْ قصده، لا يتوانى عن مد يد العون لكل مَنْ طرق باب منصبه».
عبدالله بشارة: جَمَعَ مواصفات النجاح ونال ثقة القيادة ومختلف الهيئات
أشاد الدبلوماسي المخضرم الدكتور عبدالله بشارة بسيرة الراحل، قائلاً: إن الجارالله «تميّز في بناء علاقات أخوية مع زملائه من موظفي الوزارة وسفرائها، كما حظي بثقة واسعة من السلك الدبلوماسي الخليجي والعربي والأجنبي. هذه الثقة وُلدت من عفة لسانه ونبل أهدافه واحترامه للمقامات، ونادراً ما خرج عن خطوط اللطافة التي حصنته ومنحته رصيداً كبيراً من محبة الناس واطمئنان مساعديه».
وأضاف: «استولى الفقيد على ثقة القادة بفضل التزامه بأدب الحوار ونظافة النوايا وحرصه على مودة الجميع، وعلى رأسهم المرحوم الشيخ صباح الأحمد، أمير الدبلوماسية الكويتية، الذي اعتمد عليه في القضايا السياسية والخليجية والعربية. فقد كان الجارالله مديراً لإدارة مجلس التعاون في بداياته، وأنا حينها أميناً عاماً للمجلس، فبنى جسور التواصل بين الأمانة العامة في الرياض ووزارة الخارجية، وشكّل رابطاً متيناً مع إدارات مجلس التعاون والدول الأعضاء، كما كان صلة وصل أساسية بين السلك الدبلوماسي في الكويت والخارجية».
وتابع بشارة: «تميّز خالد الجارالله بخلق رفيع وأسلوب رقيق، ونظافة تعامل، وطيب سلوك، وأمانة كلمة، مما منحه ارتياح مساعديه وثقة السفراء وممثلي الدول في الكويت. كان طبيعياً في تعامله، لطيف المعشر، صادق النوايا، لم يجند صفاته الطيبة لأغراض شخصية، ولم يسع وراء الترقيات، بل جاءت مكانته من رصيد نظيف وهبه الله له، فحاز نجاحاً مستحقاً وصداقات واسعة بلا خصومات».
وختم بالقول: «لقد فقدت الكويت رجلاً جمع مواصفات النجاح، ونال ثقة القيادة ومختلف الهيئات الداخلية والخارجية. لم تفارقه اللطافة حتى في لحظات القلق النادرة، وظل عنواناً للرقي والهدوء».
بدر العيسى: لم يعرف الغضب ولا التعالي
وصف الدكتور بدر العيسى الفقيد بـ«الرجل المعتّق بالدبلوماسية الكويتية، صاحب البسمة الدائمة والقلب النابض بحب وطنه، وصاحب الروح الصادقة والمحبة للعطاء والوفاء».
وأضاف: «أكثر من خمسين عاماً حمل خلالها أثقال الشؤون الداخلية والخارجية للكويت، وكان شاهداً على العديد من المعاهدات والاتفاقيات التي ربطت بلاده بدول العالم، متتلمذاً على يد المغفور له الشيخ صباح الأحمد الصباح، عميد الدبلوماسية العربية والإنسانية، الذي غرس فيه قِيَم السياسة بحلوها ومرّها، بهدوئها وعصفها، حتى أصبحت وزارة الخارجية بيته الأول يعرف تفاصيلها ودهاليزها الدقيقة».
وتابع: «عمل الفقيد بلا كلل ولا ملل، وأسس شبكة واسعة من العلاقات الدولية، وكان واسع الاطلاع والمعرفة، محباً للفن والشعر والرياضة، متحلياً بأخلاق أصيلة رفيعة أكسبته احتراماً كبيراً داخل الكويت وخارجها. وتمتع بمكانة مميزة في العلاقات الدولية التي تربط الكويت بدول المنطقة والعالم العربي. كان صاحب شخصية هادئة ومتزنة، لا يعرف الغضب ولا التعالي، صقلته الحياة السياسية فقدم لها جهده ووقته وإمكاناته، وترك قاعدة واسعة من المحبين والأصدقاء».
ناصر الصبيح: قامة دبلوماسية بارزة
قال ناصر الصبيح عن الفقيد: «إنه أحد نجباء مدرسة صباح الأحمد، وقامة دبلوماسية بارزة محلياً وإقليمياً ودولياً. ترك بصمات واضحة في السياسة الخارجية للكويت، وتميّز بشخصيته الهادئة والمتسامحة».
ضاري العجران: المحرك الرئيس للوزارة
أكد ضاري العجران أن الجارالله «كان صاحب قيادة سليمة وأخلاق نبيلة، يُقدّم المشورة للجميع، وكان المحرك الرئيس للوزارة في المفاوضات والوجه الدبلوماسي المعروف للكويت. إن رحيله ترك فراغاً كبيراً».
الصوت الهادئ والحضور المتزن
وُلد خالد الجارالله في مدينة الكويت العام 1947، في مرحلة كانت البلاد تستعد لخطواتها نحو الاستقلال وبناء الدولة الحديثة.
نشأ في بيئة زرعت فيه قيم الكرامة والصبر والنزاهة، فبرز منذ صغره بقدرة لافتة على الإصغاء والتأمل. وعندما التحق بجامعة الكويت لدراسة العلوم السياسية، بدا واضحاً أن بوصلته تتجه نحو الخدمة العامة. اختار هذا المسار بدافع الغاية والإيمان بأن قوة الدولة تقاس بمبادئها وأبنائها المخلصين.
يؤكد الكتاب أن أثر الراحل خالد الجارالله لا يُقاس بالمناصب التي تولاها، بل بما تركه من قِيَم راسخة وتجارب إنسانية. صوته الهادئ كان مرادفاً للثقة، وحضوره المتزن شكّل عنصر طمأنينة في كل مهمة دبلوماسية.
وعلى مدى أكثر من خمسة عقود، ظل رمزاً للوفاء والاتزان، ودليلاً على أن الصمت أحياناً أبلغ من كل الكلمات.
المسيرة
• 1947: وُلد خالد سليمان الجارالله في مدينة الكويت.
• أوائل السبعينيات: التحق بوزارة الخارجية بعد تخرّجه في جامعة الكويت متخصّصاً في العلوم السياسية.
• في السبعينيات، بدأ مسيرته الدبلوماسية من خلال عمله بسفارة الكويت في بيروت.
• 1974 – 1987: تولّى رئاسة إدارة العلاقات العربية بوزارة الخارجية.
• أواخر الثمانينيات: شغل منصب مدير شؤون مجلس التعاون الخليجي، ثم عُيّن وكيلاً لوزارة الخارجية.
• 1990: أثناء الغزو العراقي للكويت، شارك في تنسيق السياسة الخارجية للحكومة الكويتية من مقرها بمدينة الطائف – السعودية.
• 1991 – 1999: بعد التحرير، ساهم في استعادة العلاقات الدبلوماسية للكويت، وتولّى ملفات حساسة مثل إعادة الأسرى والمفقودين، وترسيم الحدود مع العراق بموجب قرار مجلس الأمن رقم 833، إلى جانب إعادة ترسيخ مكانة الكويت الدولية.
• 1999: صدر قرار تعيينه نائباً لوزير الخارجية.
• 2000: عمل على ملفات الاستقرار الإقليمي، وترأس مجلس السلك الدبلوماسي والقنصلي، كما شارك في أعمال لجنة التعويضات التابعة للأمم المتحدة.
• 2013 – 2015: قاد ثلاثة مؤتمرات دولية للمانحين استضافتها الكويت لدعم الوضع الإنساني في سورية.
• 2017: لعب دوراً محورياً في جهود الوساطة الكويتية لحل الأزمة الخليجية بين قطر وعدد من دول مجلس التعاون ومصر.
• 2018: قاد مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق، وحصل في العام ذاته على وسام نجمة القدس من دولة فلسطين.
• 2020: عُيّن نائباً لرئيس فريق العمل الوطني المكلّف بإجلاء المواطنين الكويتيين خلال جائحة «كورونا».
• 2021: تقاعد بعد أكثر من نصف قرن من الخدمة الدبلوماسية، بينها 22 عاماً شغل خلالها منصب نائب وزير الخارجية.
• في 23 مارس 2025: رحل عن عالمنا في شهر رمضان المبارك عن عمر ناهز 78 عاماً، بعد مسيرة حافلة بالعطاء والإنجازات.