No Script

خواطر صعلوك

بعد التوكل على الله

تصغير
تكبير

كما أن هناك في عالم الأدب عبارات استهلاكية مثل «شكرا لك بحجم السماء»، و«ذهب أدراج الرياح»، و«شربت قهوتي وقت سقوط المطر».
كذلك في عالم السياسة هناك كلمات وجمل وأفعال استهلاكية مثل أن يقول المرشح: بعد التوكل على الله ومشاورة أهالي الدائرة أعلن ترشحي للانتخابات البرلمانية المقبلة.
أو يقول وقد وضع لمسة خفيفة: بعد التوكل على الله أولاً ثم مشاورة أبناء القبيلة وأبناء الدائرة والمقربين وسندي، أعلن ترشحي لانتخابات مجلس الأمة المقبل... والله ولي التوفيق والسداد.


أما الفائز معنا اليوم بوضع أجمل لمسة فنية فهو صاحب مقولة: بعد التوكل على الله وإيمانا بذاتي و‏إيماناً بدور المسؤولية الاجتماعية للأفراد، وبدور الشعب في المؤسسات، وبدور الرقابة والمحاسبة في الإصلاح، وبدور التشريع في التنظيم، أعلن ترشحي لانتخابات مجلس الأمة المقبل.
يتفاعل الناس مع هذا الفقر في الخيال السياسي والخطاب المتداول بالسخرية أحيانا، وبالتجاهل أحيانا أخرى.
أحدهم يعلق: بعد التوكل على الله ومشاورة الأهل والأصدقاء والخيّرين في هذا البلد المعطاء، ورغبة منا للصالح العام، قررت أطلب «غدا» من المطعم!
وآخر يكتب: بعد التوكل على الله و مشاورة الأهل والأصدقاء، قررت خوض التمارين الرياضية في الدائرة الثالثة والله ولي التوفيق.
أما المحاكاة الفائزة معنا اليوم فهي لسيدة كتبت:
‏فإذا عزمت فتوكل:
قررت بعد التوكل على الله الذهاب غداً لزيارة قسم الرياضيات، نبي نشوفهم نتطمن عليهم أخاف مقفل عليهم الباب ومحد يدري.
فقط عزيزي القارئ كنت أتساءل عن إمكانية أن يقدم الأديب رواية مليئة بالكليشيهات الاستهلاكية، التي حتى الأبقار مضغتها في المزارع، هل ستكون رواية جيدة؟
وعن إمكانية المرشح - الذي يفتقر إلى الخيال السياسي في تقديم نفسه على الأقل - هل يمكن فعلا أن يحدث فارقاً؟
بالتأكيد لا أطلب من المرشحين أن يكتبوا مثلاً:
في شهر تشرين يهاجر البجع في اتجاه جزيرة بوبيان، ويزهر الأقحوان أسفل تلال جال الزور، ولا يعفن الوحل في بقع سقوط الأمطار... ولذلك أعلن ترشحي للانتخابات البرلمانية المقبلة.
بالتأكيد سيكون من السخيف أن أطلب طلباً مثل هذا، ولكن الأسخف من ذلك هو ظاهرة أننا نراهم يعلنون عن أنفسهم بالطريقة نفسها، ثم يسيرون في المسار نفسه، ثم يصرخ المواطن بملء رئتيه بحثا عن التغيير والاصلاح، ثم تتم الدعوة للانتخابات، ويظهر مرشحون جدد يعلنون عن أنفسهم بالطريقة نفسها، ثم يسيرون في المسار نفسه، فلا يزهر الأقحوان ولا يهاجر البجع ولا يبقى سوى الوحل، الذي عفن جراء سقوط المطر!
ومن فقر الخيال الأدبي إلى فقر الخيال السياسي، نفهم جيداً سبب فقر الخيال الوطني، وشكل احتفالاته التي لا تتعدى في المؤسسات الحكومية والتعليمية وضع الأعلام والأغاني والرقصات، وتوزيع الكاكاو ثم السفر والاستمتاع بالحرية الفردية حتى آخر مدى.
بالتأكيد سيكون من السخيف جداً أن أطلب من المؤسسات الحكومية والتعليمية الاحتفال بالعمل والإنجاز في وقت التحرير والاستقلال، من أجل أن نثبت لأنفسنا ولأبنائنا - في هذه الأيام - أننا مستحقون فعلاً العيش على هذه الأرض، تعبيراً عن مقولة درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»!
سيكون من السخيف جداً أن أقول لوزارة التربية إنه على كل مدرسة أن تحتفل بالعمل عبر طلابها... لا بالأعلام فقط، وأن تقدم إمكانياتهم في هذا اليوم، لا أن تطمس ذاكرة لحظات الصمود والعمل... فيصبح الاحتفال فقرات تلفزيونية وبرامج إذاعية وبصمات أصابع ملونة على علم، وبالونات مائية تصيب الشرطة قبل غيرهم، وعمال نظافة أجانب سيسهرون الليل بطوله في الانحناء لالتقاط مخلفات فرحة شباب وطني احتفلوا بالتحرير، وإشاعات سخيفة بإسقاط القروض ينشرها أناس يتعاملون مع الوطن على أنه بنك كبير.
وسخيف جداً أن أقول إذا لم نعلم أبناءنا كيف يحتفلون بالأعياد الوطنية في المدارس، فإن مجتمع الغد هو كربون عن مجتمع اليوم ولكن بأدوات مختلفة.
هذا طرح سخيف جداً لن يناسب إلا المجانين المهووسين بالفكرة حد التلاشي.
الفكرة التي تعتلي الخيال لتصحيح مسار الواقع، من أجل تأسيس واقع قد يأخذنا إلى مساحات من الخيال.

@moh1alatwan

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي