سارة النومس

لا تتفلسف
قال برنارد شو: (إذا علّمت الشخص أي شيء، فهو لن يتعلّم).هذه الجملة تحطّم غرور الأشخاص الذين تغنوا بثقافتهم وشهاداتهم العليا، لقد مر وقت ولّى ورحل (ولله الحمد) كان الناس يتدافعون لشراء الشهادات دون تعب وجهد للحصول على زيادات في الوظيفة ومكانة اجتماعية مشرفة.ويزداد الغرور إذا كان الشخص يحمل الدكتوراه، كنت أصطاد المزيفين منهم عند التحدث وحصيلته من المعلومات والثقافة. بعضهم يتذكر فقط اسم أطروحته.وعلى سبيل الفكاهة البعض يضع لقب (دكتور) على واجهة منزله. تحتاج إلى بعثة دراسية ومعدل دراسي ورغبة في الدراسة كي تحصل على الشهادة، لكن من الصعب جداً أن تكون مخترعاً وتؤثر بشكل مباشر جداً في العالم.إننا في المدارس والجامعات ندرس علوماً أسسها علماء درسوا عن طريق التأمل والملاحظة والتجارب والمصادر المكتوبة والرحلات وغيرها من الوسائل البعيدة عن ورقة الاختبار واستعطاف الدكتور وحفلات التخرج.لأثبت لك أن شهادة الدكتوراه، ليست دافعاً للغرور، اكتب في مؤشر البحث عن قائمة أغنى الناس في العالم لعام 2025، ستجد قائمة بعشرة تسيدهم في الدرجة الأولى ايلون ماسك، حاصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء. كان ينوي دراسة الدكتوراه لكنه ترك الجامعة بعد يومين، فقد وجد ما هو أهم من وجهة نظره. المثال الثاني دونالد ترامب، أكثر رئيس مثير للجدل في الولايات المتحدة، رجل أعمال يحب الشهرة والتفاخر، ولكن مصدر غروره لم يكن الشهادة العلمية فقد حصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد.المثال الثالث هو جيفري ابستين، ولا تهمني حياته الشيطانية هنا، بل لسبب ثرائه وشهرته فقد كان ذكياً لم يحصل على شهادته الجامعية، وسبب غروره هو قوة علاقات الاجتماعية مع شخصيات مهمة وسياسية وحساسة في العالم، جعله الصندوق الأسود.المثال الأشهر هو بيل غيتس، مؤسس «مايكروسوفت» صنع ثروة هائلة من ثورة الحاسوب، لم يكمل دراسة القانون في الجامعة. لن أطيل بذكر الأسماء، على حملة الدكتوراه (المغرورين منهم) أن يتواضعوا، فالرسالة ليست للتفاخر وإنما للبحث والإنجازات التي تخلد اسم صاحبها في صفحات التاريخ ويساهم في تغيير العالم للأفضل.ترددت في العمل مع مجموعة من الدكاترة فبعضهم لا يتعاملون بناء على عقليتك وإنجازاتك في الحياة... وإنما هل تحمل شهادة الدكتوراه أم لا، ليس غروراً، ولكن من الناحية العملية فإنني أتفوق على بعضهم ولا أرغب بتضييع المزيد من وقتي لفلسفة زائدة. وما زلت أتذكر أحد الدكاترة وهو مغرور الذي في كل جملة وأخرى يكرر (لما كنت أدرس الدكتوراه في أميركا).لا أقصد أن أكون قاسية جداً مع الدكاترة فكثير منهم رائعون، بل ولا يذكرون أنهم دكاترة من شدة التواضع لكن من يرتدي زي الغرور فقط لأنه دكتور، فأنصحه بنزعه لأنه لا يليق به، وبأن هناك أناساً كثراً في هذا العالم يحق لهم أن يكونوا مغرورين ومع ذلك التزموا التواضع وتقربوا للناس بابتكاراتهم واختراعاتهم لا بفلسفة زائدة.

محمد ناصر العطوان

عن كل الذين رحلوا ولم يودّعونا!
أفكر فيهم كثيراً... في كل الذين رحلوا من حياتي دون أن يلتفتوا ليوم أخير، دون أن تُغلق أبواب رحيلهم بلُطف. في جدي الأول الذي بقي وعده بالحلوى معلقاً في الهواء، وجدي الثاني الذي تحولت زيارته «القريبة جداً» إلى أبد من الانتظار... في أمي التي خرجت كما لو أنها ستعود بعد قليل، فتركت كل شيء على حاله، حتى رائحة عطرها في الغرفة... في خالي الذي صار أشبه بكتاب نُزعت منه الصفحات الأخيرة من كل قصة.أفكر في وجوه التقطتها اللحظة ثم طواها النسيان، جيران طفولتي الذين ذابوا مع جدران البيت القديم، وأصدقاء تحوّلوا إلى ظلال صامتة، وأناس مروا في الطريق كلمح البصر وتركوا أثراً لا يُمحى.كأننا، مع كل فراق بلا كلمة أخيرة، نضيف غرفة جديدة إلى «متحف الفقد» الذي ينمو في صدرنا... متحف لا تُعلق على جدرانه صور، بل لحظات متجمدة... موعدٌ أُلغي، رسالة لم تُفتح، هاتف صامت، باب مفتوح على صمت.أليس الحنين، في النهاية عزيزي القارئ، هو ذلك المتحف الواسع الذي نسكنه حين نكبر؟ متحف لكل الذين رحلوا دون أن يودعونا، فتركونا نبحث عن الوداع في كل زاوية من زوايا الذاكرة، وفي كل مقعد فارغ لايزال ينتظر.في غرفتي، ما زالت هناك مقاعد فارغة، لم يسبق أن جلس عليها أحد، في الواقع هي ليست مقاعد مادية، ولكني أراها... أراها تنتظر أن يجلس عليها من رحلوا دون أن يودعوا.جدي الأول رحل وأنا في الطريق أبحث عن ذاتي... قيل لي «سيأخذك لشراء الحلوى غداً». لكن الغد الذي جاء كان بلا حلوى، بلا يَد خشنة تمسك بيدي، بلا رائحة تبغ قديم تملأ السيارة.جدي الآخر رحل وهو يعدني بزيارة «قريباً جداً»... ولم أكن أعلم أن «قريباً جداً» كانت بلداً بعيداً لا تصل إليه حافلات الدنيا، ولا تطير إليه طائرات الوعد، فقط ترك لي ساعته التي توقفت عند الساعة التي قرر فيها الرحيل دون استئذان.أمي رحلت دون أن تغلق الباب... ظننت أنها ذهبت لرؤية الطبيب... انتظرتها وأعدت ترتيب الوسائد على أريكتها، وحضرت كأس الماء الذي كانت تشربه عند عودتها... لكنها لم تعد، فقط ظلت رائحة عطرها تعلق بالهواء كشاهدٍ على اختطاف أعز ما رأت عيني.خالي، أيضاً رحل وهو يحمل حكايات لم يكملها... كل قصة كانت تنتهي بـ «في المرة القادمة». ولم تكن هناك مرة قادمة... صار خالي مجموعة من الجمل المنقوصة، وفصولاً مبتورة في كتاب لا غلاف له.جيران الطفولة الذين رحلوا كأنما كانوا ظلاً لبنايتنا القديمة... عندما هُدمت البناية، انهار الظل معها... أسماؤهم الآن مجرد أصداء في بئر اللاوعي، أما وجوههم فأصبحت مثل صور في ألبوم مبلل تحت المطر.أما الصداقات... تلك التي انتهت بهاتف لا يرد، ورسالة لم تُقرأ، وموعد أُلغي بلا سبب... رحلوا كسحابة مرت فوق رأسي ولم تمطر إيذانا بالرحيل... أحياناً أتساءل، هل كنت أنا من رحل عنهم، أم هم من رحلوا عني؟!في الطريق، مررت بعابرين... بائع كتب قديمة أخبرني بقصة غيرت مساري، عبدالرحيم، الذي اختفى فجأة... وسيدة قابلتها في الشارع ومعي أبنائي، حيث كنا على وشك الدخول للمنزل عندما ظهرت وأعطتنا قطعة حلوى مع ابتسامة مجانية، فابتسمنا جميعاً؛ كيف لامرأة أن تحمل الحلوى وتوزعها في الشارع بهذه البساطة؟ أردت أن أشكرها لاحقاً، لكن خبراً انتشر في الحي سبقني... لقد قتلها زوجها المجنون في الشهر ذاته! كانت تحمل الحلوى، وكان يحمل الموت، وعن طفل سألني عن الوقت وبكيت لأنه ذكرني بطفلي الداخلي الذي رحل هو الآخر دون وداع.كل هؤلاء... رحلوا كما تذهب أوراق الخريف... بصمت، بلا ضجيج، وكأنما كانت الأرض تفتح فمها تحت أقدامهم وتغلقُه بعد أن يمرّوا... أحياناً أفتح النافذة في الليل، وأتساءل... أين ذهبوا جميعاً؟ هل هناك مدينة للذين رحلوا دون وداع؟ هل يجتمعون في مقاهي «الرواء» هناك، يتحدثون عن أولئك الذين تركوهم وراءهم، ويقولون: «كنت سأودعه، ولكن...»؟ قرأت في إحدى كتب الصوفية أن «الوداع الحقيقي لا يحتاج إلى كلمات، إنه يحدث كل يوم»... ربما كان هذا الصوفي على حق، فهؤلاء الذين رحلوا دون وداع، هم في الحقيقة لم يغادروا تماماً.هم هنا، في الساعة المتوقفة.في الكرسي الفارغ.في القصة غير المكتملة.في رائحة العطر التي تظهر فجأة ثم تختفي.هم في كل «قريباً» أقولها وأنا أعرف أنها قد لا تأتي... وفي كل الذين انتظرتهم ولم يأتوا... وفي كل الذين عرفتهم ولم يعودوا... الذين رحلوا دون وداع تركوا لنا أكثر من ذكريات... تركوا لنا أبواباً مفتوحة... إنني أدعو جميع القراء إلى الاعتناء بمتحف فقدهم بالدعاء والامتنان لكل لحظة قبل الوداع...وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لم يرد به وجه الله... يضمحل.

د. عبدالرحمن الجيران

جاب العيد!
«جاب العيد» مثل شعبي سارت به الركبان بمعنى أن شخصاً خرّب الدنيا بقوله أو بفعله، مثلما يقولون (بط الجربه) أي كسر القارورة وأخرج ما فيها فكشف كل الأسرار والمعنى الحرفي للمثل (جاب العيد). يقال إن بلداً من البلاد قالوا إن شهر رمضان هذه السنة ناقص ولن نكمل العدّة فافطروا وتبين بعد ذلك أن الشهر كامل فقالوا جبنا العيد - أي - قبل أوانه.والعيد عيدان، يتكرّران علينا كل عام -عيد الفطر وعيد الأضحى- ولكن أي الأعياد الذي لم يأتِ بعد؟العيد الذي نأمل أن نراه في مستقبل الأمة هو العيد الذي تبرز فيه مكونات المجتمع المسلم متميزة بطابعها الشعبي مفصولة عما هو أجنبي ودخيل، لابسة من عمل يديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وكينونتها وصناعاتها... ظاهرة بقوتين في ايمانها وخصوصيتها، مبتهجة بفرحتين في مساكنها وأسواقها، فكأن هذا العيد يوم فرح للشعب كله بخصائصه...ولكن العيد الذي لم يأت بعد... عيد شعار هذه الأمة بأن فيها قوة التغيير في مجرى الأيام مثلما هو حاصل في الكويت اليوم – بفضل الله – لا شعار بأن الأيام تتغير؟ وليس العيد للأمة إلا يوماً تعرض فيه جمال نسيجها الاجتماعي الرصين، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الصغار والكبار والكلمة الواحدة على لسان الجميع وهي كلمة (الوطن) وهو يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام لا القدرة على تغيير موديلات الثياب... والماكياج!والعيد الذي لم يأت بعد العيد الذي تتسع فيه روح الجوار وتمتد حتى ترجع الكويت البلد العظيم وكأنه لأهله داراً واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي وتظهر فضيلة الإخلاص وصدق الكلمة مستعلنة للجميع ويتهادى الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المتحابة زمن الطيبين (داخل السور)، وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الكويت كلها...فما أشدّ حاجتنا اليوم الى أن نفهم أعيادنا فهماً جديداً نتلقاها به وهي عيد الفكرة العابدة لله الشاكرة لأنعمه... وليس عيد الفكرة العابثة بالوطنية... هذه المعاني السامية هي التي من أجلها فُرض العيد ميراثاً زمنياً في الإسلام يتجدد كل عام ليستخرج أهل كل زمان من معاني زمانهم وقيمه ليضيفوا إلى المثال السابق أمثلة مما يبدعه نشاط الصالحين المصلحين في هذا البلد المعطاء ويحقق مطالبها وتقتضيه مصالحها.وهذه المعاني السامية نفسها نجدها في يوم الاستقلال وذكرى التحرير من الغزو العراقي، فالأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله، حقق الاستقلال للكويت شكلاً ومضموناً، وحررها اليوم صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، حفظه الله ورعاه، فأرجعها بيد الأحرار وأدى الأمانة.

حمد الحمد

قرارات بين كبس وإزالة... لماذا؟!
هذه الأيام تصدر قرارات أو حتى قوانين لا أعرف، هل تمت دراستها بشكل وافٍ...؟! وهنا جاء في بالي أغنية أصبحت ترند في وسائل التواصل تغنيها بنت كويتية من كلماتها (من صجك؟) بمعنى (هل أنتم صادقون؟) والأغنية تدل على الحب وعدم تصديق هكذا أخبار، ما أعنيه هل من (صجكم أن تصدر هكذا قرارات؟!) بمعنى بالفصحى هل أنتم صادقون...؟! ونذكر أمثلة:أولاً: قرار كبس السيارات لمن يقوم بالتقحيص أو ارتكاب مخالفة كبرى... ما الداعي لكبس سيارة قيمتها مثلا 20 ألف دينار أو أقل من ذلك؟! لأن السيارة المسكينة لم ترتكب الجرم، إنما المذنب السائق، ولماذا نعاقبها وقد صنعها أجنبي في الغرب أو الشرق؟! لأن السيارة من الموجودات القيمة، حيث الأفضل أن تُصادر بإجراء سليم مدروس ومن ثم تباع وثمنها يعود للمال العام، أو يرسل إلى جمعية خيرية ويعول عشرين أسرة في الداخل أو الخارج... لكن الكبس لن يستفيد منه إلا تجار الخردة ليباع بثمن بخس.ثانياً: قرار هدم المباني الآيلة للسقوط في جليب الشيوخ من قبل البلدية وعددها 67 عقاراً... هنا هل هكذا قرار يحل أزمة الجليب وهي أزمة كبرى؟ طبعا لا... إلا إذا كان الهدم بإذن من القضاء، فهذا أمر آخر، عند الهدم ترتفع قيمة المبنى والأرض عند البيع، وإذا تم الهدم هل صاحب المبنى مسموح له بإعادة البناء أو بيع الأرض؟ بمعنى أن هناك قرارات لا تحل مشاكل الجليب وما أكثرها، إنما تتناقص فرص التأجير للعمالة العزاب، هنا يذهبون لأماكن أخرى في الفروانية وخيطان ويزاحمون العائلات.الحل الأفضل هو التثمين، أو منح أصحابها أراضي من الدولة كبديل، مع أولاً تنفيذ مجمعات العمالة التي أقرت من سنوات، ولا أعرف لماذا لم تنفذ؟!مقترحات وحلول من مواطن ليس إلا...

د. جمال عبدالرحيم

«السوبرماركت»... من مصطلح غربي إلى تجربة كويتية رائدة
في قراءة توثيقية سريعة لبدايات التسوق الحديث وتحولات الاسم والهوية التجارية في الكويت، ظهر مصطلح Supermarket (سوبر ماركت) وبدأ في استخدامه في أواخر القرن العشرين في بريطانيا والولايات المتحدة. ولم يكن المصطلح في نشأته اسماً لشركة تجارية بعينها، بل وصفاً لنمط بيع حديث يقوم على الخدمة الذاتية (Self-Service) بدل البيع التقليدي من خلف الطاولة، وهو النمط الذي كان يُعرف محلياً باسم «الدكان» أو «البقالة».ومع تطور أساليب التجارة، تبلور هذا المفهوم ليعتمد على عرض السلع الغذائية بشكل مفتوح ومنظم، وجمع احتياجات الأسرة اليومية في متجر واحد بدل الاعتماد على تعدد الدكاكين. ومع اتساع النشاط التجاري البريطاني في تلك المرحلة، انتقل المصطلح إلى الأسواق المرتبطة ببريطانيا، ومنها الخليج العربي، حيث استخدمه كثير من التجار المحليين اسماً تجارياً لمشاريعهم تعبيراً عن حداثة الفكرة، لا عن انتساب لشركة أجنبية بعينها.في هذا السياق، اختار أحد التجار الكويتيين الرواد في بدايات خمسينات القرن الماضي وهو عبدالخضر عبدالرحيم -رحمه الله- الاسم التجاري «سوبر ماركت» لمشروعه وهو عبارة عن سوق مركزي لبيع المواد الغذائية المستوردة من بريطانيا. وكان مشروعه تبنّياً ذكياً لمفهوم حديث في بيئة تجارية كانت لاتزال تعتمد في معظمها على الدكان التقليدي.أُنشئ الفرع الأول للمحل في مدينة الأحمدي في بداية الخمسينات، وهي مدينة حديثة آنذاك ارتبطت بصناعة النفط وضمّت شريحة واسعة من الموظفين الأجانب لا سيما البريطانيين. وقد شكّلت هذه البيئة مجتمعاً أكثر تقبّلاً لفكرة التسوق المنظم والخدمة الذاتية.ومع نجاح التجربة الأولى، افتُتح فرع ثانٍ في مدينة الكويت، وتحديداً في شارع الجهراء قرب البريد العام، الذي يُعد أحد الشرايين التجارية الحيوية في العاصمة. وأسهم هذا التوسع في ترسيخ اسم «سوبر ماركت» في الذاكرة الاستهلاكية بوصفه متجراً غذائياً منظماً يختلف عن النمط السائد آنذاك.لم يكن نجاح محلات بيع المواد الغذائية المستوردة ممكناً دون خدمات لوجستية مساندة، وعلى رأسها مخازن التبريد، لا سيما للمواد سريعة التلف والمجمدة. وإدراكاً لهذه الحاجة، بادر التاجر عبدالخضر عبدالرحيم، إلى إنشاء مخازن تبريد متخصصة، عبارة عن ثلاجات (فريزرات) ضخمة على شكل غرف تبريد، خُصصت لحفظ المواد الغذائية المستوردة. وقد أُقيمت هذه المخازن في منطقة «المقوع الشرقي» على موقع مصانع «شركة مرطبات الكويت»، التي تنتج «مشن» و«زمزم» للمرطبات الغازية، إضافة إلى تخزين الحليب المعقم المستورد من البصرة مما وفّر بنية تحتية متكاملة دعمت استمرارية التوريد وجودة المنتجات المعروضة. ولم يكن هذا التوسع اللوجستي منفصلاً عن خبرة المؤسس المهنية؛ إذ كان التبريد والتكييف المركزي أحد أنشطة مقاولاته الرئيسة في مدينة الأحمدي، وهو فرع من فروع أعمال المقاولات الإنشائية والكهروميكانيكية، وقد مكّنته هذه الخبرة من الربط المبكر بين المقاولات والتجارة والخدمات اللوجستية، في وقت لم يكن هذا التكامل شائعاً بعد في السوق المحلي.ومن المهم تصحيح توصيف تاريخي شائع جرى تداوله في بعض الطروحات، إذ وُصف المتجر الراقي «جاشنمال» بأنه أول سوبرماركت في الكويت. والحقيقة أن «جاشنمال» كان متجراً رئيسياً لبيع الكماليات والسلع المستوردة، مثل الملابس، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، والكاميرات، والأسطوانات، وغيرها من السلع غير الغذائية. وربما احتوى على قسم جانبي محدود لبيع بعض المواد الغذائية المستوردة، إلا أن ذلك لا يجعله «سوبرماركت» بالمعنى التجاري الدقيق والذي يقوم أساساً على تخصص المتجر في بيع المواد الغذائية كنشاط رئيسي، لا كقسم ثانوي ضمن متجر متعدد الأقسام.ومع اتساع شهرة مشروع «سوبر ماركت»، قام أحد مديري المحل، وافتتح متجراً مشابهاً بالقرب من فرع مدينة الكويت، مطلقاً عليه اسم The New Supermarket (سوبر ماركت الجديد). وقد أدّى اختيار هذا الاسم القريب جداً من الاسم الأصلي، لاسيما استخدام كلمة «الجديد»، إلى إحداث لبس لدى المتسوقين، وأثرٍ ملموس في المبيعات، في مرحلة لم تكن فيها قوانين حماية الأسماء التجارية والملكية الفكرية قد استقرت بعد.وعقب خروج المدير اياه، اتخذ المؤسس خطوة تنظيمية للحفاظ على استقرار العمل، حيث استعان بكفاءات إدارية من ذوي الخبرة. وفي هذا الإطار، كُلّف اللبناني السيد فهمي العشي، رحمه الله، في مرحلة حساسة اتسمت بحدة المنافسة وتشابك الأسماء التجارية، وأسهم ذلك في تعزيز الانضباط الإداري واستمرارية العمل وفق المفهوم الذي أُسس عليه المشروع.أمام هذا الواقع، اتخذ المؤسس قراراً تجارياً إستراتيجياً بتغيير الاسم التجاري إلى «محلات زمزم» ZamZam Store، في خطوة تعكس فهماً مبكراً لأهمية الهوية والتميّز في السوق، لا تراجعاً عن الفكرة لتواصل «محلات زمزم» نشاطها بنجاح حتى منتصف الثمانينات، من خلال فروعها مقابل قصر دسمان ومدينة الأحمدي، وهما منطقتان كانتا تضمان آنذاك عدداً كبيراً من أفراد الجالية الأوروبية وخصوصاً الإنكليزية، ما جعلهما موقعين إستراتيجيين لاستمرار نمط التسوق الحديث القائم على السلع المستوردة وتنظيم العرض.وخلاصة القول، لا تمثل تجربة «سوبر ماركت» ثم «محلات زمزم» مجرد قصة متجر أو تغيير اسم تجاري بل تعكس دخول مفهوم السوبرماركت أو السوق المركزي إلى الكويت، حيث أسهم التاجر عبدالخضر عبدالرحيم، في تدريب كوادر الجمعيات التعاونية وتأهيلهم للعمل في الأسواق المركزية، فكانت بذلك بدايات الوعي بالعلامة التجارية والمنافسة والانتقال من التجارة التقليدية إلى التنظيم الحديث وهو ما يُترجم قدرة التاجر الكويتي المبكر على التكامل بين التجارة واللوجستيات والإدارة والتكيّف الإستراتيجي مع السوق. ومن هذا المنظور، تشكّل هذه التجربة جزءاً أصيلاً من الذاكرة الاقتصادية والاجتماعية لدولة الكويت تستحق أن تُروى بوصفها إحدى اللبنات الأولى للتجارة الحديثة في البلاد.

علي الفيروز

للخشوع طاقة (1 من 3)
لو تأملنا بعنوان مقالنا اليوم، ربما نتعجب... كيف يكون للخشوع طاقة، فهل للخشوع طاقة فعلاً، وهل هناك حقائق علمية وقرآنية تدل على ذلك؟!إن الخشوع هو أفضل علاج لكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، فالمؤمن عندما يمارس عبادة الخشوع يمتلك طاقة كبيرة في كل المجالات.كيف؟ يظن المؤمن أحياناً أن الله أمرنا بالخشوع فقط لنتقرّب إليه، ولكن الدراسات العلمية أظهرت شيئاً جديداً حول ما يسميه العلماء «التأمل»، ولكن هذا التأمل هو مجرد أن يجلس المرء ويحدّق في جبل أو شمعة أو شجرة دون حركة ودون تفكير، ووجدوا أن هذا التأمل ذو فائدة كبيرة في معالجة الأمراض وتقوية الذاكرة وزيادة الإبداع والصبر وغير ذلك، ولكن القرآن الكريم لم يقتصر على التأمل المجرد بل قرنه بالتفكر والتدبر وأخذ العِبرة والتركيز على الهدف، وسماه «الخشوع»، فكان الخشوع من أهم العبادات وأصعبها لأنه يحتاج لتركيز كبير.وهكذا فإن كلمة الخشوع تدل على أقصى درجات التأمل مع التفكير العميق، وهذا الخشوع بالطبع ليس مجرد عبادة بل له فوائد عظيمة في علاج الأمراض واكتساب قدرات هائلة ومتجددة.إذا، ما العلاقة بين الخشوع والقلب؟ لقد أظهرت دراسة جديدة نشرتها مجلة جمعية القلب الأميركية (The American Heart Association) أن التأمل لفترات طويلة ومنتظمة يقي القلب من الاحتشاء او الاضطراب، ويعمل التأمل على علاج ضغط الدم العالي High Pressure، وبالتالي تخفيف الإجهاد عن القلب، ولذلك قال الله تعالى في محكم تنزيله مخاطباً المؤمنين: «ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله».كما أظهرت هذه الدراسة أن للقلب عملاً مهماً وليس مجرد مضخة، وتؤكد الدراسة على أهمية التأمل والخشوع في استقرار عمل القلب، ويقول الأطباء اليوم إن أمراض القلب هي السبب الأول للموت في العالم، وسبب هذه الأمراض هو وجود اضطراب في نظام عمل القلب، ومن هنا ندرك أهمية الخشوع في استقرار وتنظيم أداء القلب.فالدراسات كذلك تثبت اليوم أن التأمل يُعالج الاكتئاب والقلق والإحباط وهي أمراض العصر التي انتشرت بكثافة اليوم.ليس هذا فحسب، بل وجدوا أن التأمل المنتظم يعطي الإنسان ثقة أكثر بالنفس ويجعله أكثر صبراً وتحملاً لمشاكل وهموم الحياة، لذلك يقول الله تعالى: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب». وهكذا أيها القُرّاء الكرام، فإذا أردتم أن تبعدوا عنكم اضطرابات القلب، عليكم بالخشوع ولو للحظات قليلة في كل يوم.إذا، ما هي علاقة الخشوع بالموجات التي يطلقها الدماغ؟ لقد وجد العلماء أن دماغ الإنسان يصدر ترددات كهرطيسية باستمرار، ولكن قيمة الترددات تتغير حسب نشاط الإنسان، ففي حالة التنبه والنشاط والعمل والتركيز في أي مهام يطلق موجات اسمها «بيتا» وأما في حالة الاسترخاء والتأمل العادي فيطلق الدماغ موجات «ألفا»، كما في حالة النوم والأحلام والتأمل العميق فيعمل الدماغ على موجات «ثيتا»، وأخيراً وفي حالات النوم العميق بلا أحلام فيطلق الدماغ موجات «دلتا».ومن خلال ما اكتشفه العلماء نستطيع أن نستنتج أن الإنسان كلما كان في حالة خشوع فإن الموجات تصبح أقل ذبذبة، وهذا يريح الدماغ ويقوّيه ويساعد على إصلاح الخلل الذي أصابه نتيجة مرض أو اضطراب نفسي مثلاً، لذلك يعتقد بعض الباحثين أن الانفعالات ترهق الدماغ وبالتالي يقصّر العمر بينما نجد ان التأمل يريح الدماغ ويطوّل العمر ويكيّف المزاج.إن أهم موجات يبثها الدماغ تلك الموجات ذات التردد المنخفض والتي تُعتبر وسيلة شفائية للجسد بسبب تأثيرها على خلايا الجسم والنظام المناعي وبالتالي فإن التأمل وبكلمة أخرى «الخشوع» تعتبر وسيلة فعّالة لتوليد هذه الموجات والتي تؤثر إيجابياً على خلايا الدماغ وتُعيد برمجته وتصحيح الخلل الحاصل في برنامج عمل الدماغ، وبالتالي فإن ممارسة الخشوع تعتبر بمثابة تهيئة وتنظيم وتقوية لعمل الدماغ.والسؤال هنا: هل الخشوع يزيد من حجم الدماغ؟ لقد قام باحثون من كلية هارفارد الطبية Harvard College حديثاً بدراسة التأثير المحتمل للتأمل على الدماغ فوجدوا أن حجم دماغ الإنسان الذي يُكثر من التأمل أكبر من حجم دماغ الإنسان العادي الذي لم يعتد التأمل أو الخشوع، ولذلك هناك اعتقاد بأن التأمل يزيد من حجم الدماغ أي يزيد من قدرات الإنسان على الإبداع والحياة السليمة والسعادة، فقد وجدوا أن قشرة الدماغ في مناطق محددة تصبح أكثر سُمكاً بسبب عملية التأمل، وتتجلى أهمية هذه الظاهرة إذا علمنا أن قشرة الدماغ تتناقص كلما تقدمنا في السن، وبالتالي يمكن القول إن التأمل يُطيل العمر أو يبطئ تقدم الهرم!وأظهرت دراسة في جامعة هارفارد أنه كلما كانت مدة التأمل أكبر كان التأثير أوضح على الدماغ من حيث الحجم واستقرار عمل الدماغ، أي أن هناك علاقة ما بين التأمل وحجم وسلامة الدماغ، وهذا التأثير على الدماغ يحدث بفعل التأمل، ولكن الخشوع يُعطي نتائج أكبر.وفي المقال المقبل نستكمل البقية...ولكل حادث حديث،،،[email protected]

عبدالعزيز الكندري

الديوانية الكويتية... وهوس التصوير
أدرجت الكويت ملف «الديوانية» على القائمة التمثيلية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، وكان ذلك خلال أعمال الدورة الـ 20 للجنة الحكومية الدولية لاتفاقية 2003 لصون التراث الثقافي غير المادي المنعقدة في القلعة الحمراء بالعاصمة الهندية (نيودلهي).وقال رئيس وفد الكويت الأمين العام المساعد لقطاع الآثار والمتاحف بالتكليف في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب محمد بن رضا، في كلمته، إن «هذا اليوم يعد محطة استثنائية في المسيرة الثقافية لدولة الكويت، إذ يمثل إدراج الديوانية أول ترشيح فردي تتقدم به البلاد إلى اللجنة الدولية لاعتماده ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية».وتكمن أهمية هذا الأمر أنه يعزز الإدراج مكانة الديوانية كعنصر أساسي في التراث الكويتي الحي ويرسخ دورها كملتقى اجتماعي وسياسي مهم عبر التاريخ وتعلم الشباب العادات والتقاليد وكيفية التعامل مع الآخرين، وجاء الإدراج بعد سنوات من العمل على إعداد الملف وتقديمه، بالتعاون مع اتحاد دواوين الكويت. إلى جانب إعلان إدراج «البشت» ضمن ملف قدم بشكل عربي مشترك بمشاركة الكويت ودول الخليج وبعض الدول العربية.والديوانية الكويتية تعتبر مؤسسة اجتماعية تمثل قلب الحياة في الكويت، وهي ليست مجرد مكان وملتقى للضيافة بل منتدى عائلي واقتصادي وثقافي، ومكان لتعزيز الترابط بين الجيران عبر جلسات يومية أو أسبوعية تجمع مختلف أطياف المجتمع لمناقشة قضاياهم، وتطورت من مجالس خاصة لفئات معينة مثل الأثرياء والوجهاء إلى ظاهرة تشمل الجميع، خصوصاً في رمضان مع الغبقات، وشهدت تطورات مع الحداثة مع الحفاظ على جوهرها ومراكز للتكافل والتعارف، كما لعبت أدواراً محورية في فترات تاريخية مهمة في تاريخ الكويت.وبعد النفط والحداثة وانتشار الثروة أدى إلى تحديث الدواوين وتزيينها، وتنوعت لتشمل دواوين للشباب، وكبار السن، والمثقفين، مع ظهور «اتحاد دواوين الكويت» للحفاظ على التقاليد، ودور الديوانية يكمن في تعزيز الروابط الأسرية والقبلية، وتكوين التحالفات الاجتماعية، وتسهيل الزواج.لكن في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة مثيرة للدهشة والاستغراب، فقد أصبح زوار الدواوين والمجالس مهتمين بالتقاط صور للديوانية وديكوراتها وشكلها وصور شخصية لأنفسهم (سيلفي) مع هذه الأعمال أكثر من اهتمامهم بالجلوس مع بعض والحديث مع صاحب الديوان، وأصبح هناك تسابق وتفاخر في تصوير الدواوين والطعام الذي يقدم للضيوف مع كل أسف، وهذا السلوك أدى إلى سرقة اللحظة الحالية. ورغم أن التقاط الصور يبدو حلاً مثالياً لإشباع جزء من رغبتنا في الامتلاك والنشر في وسائل التواصل، لكنه يجعلنا منشغلين بالتصوير فنغفل عن الحديث مع الموجودين في الديوان.والواقع يقول إن معظم الناس أصبحوا مضطرين مع كل أسف إلى وضع الكاميرا بينهم وبين أي شيء مثير للانتباه أو مميز يقابلهم، ويصورون كل شيء يقابلهم في الحياة، حتى أصبح تقييمهم للمكان بناء على الصورة التي يودون التقاطها وليس الاستمتاع بالمكان. وما يجعل التصوير يعميناً عن رؤية الجمال الموجود.لذلك أصبحنا في عصر هوس التصوير والانغماس المفرط في التقاط الصور ونشرها ما تفقدنا اللحظة الحقيقية، وتشويه الهوية الذاتية نتيجة التركيز على الصورة المثالية للآخرين وقد تصل لمخاطر نفسية، ما يستدعي الاعتدال والوعي بأهمية الاستمتاع بالحياة بدلاً من توثيقها فقط.وللعلم، فإن ليس كل شيء قابلاً للتصوير والنشر خصوصاً إن لم يتم الاستئذان من صاحب الديوان، بل على العكس لا بد من التأني في مشاركة المحتوى المفيد أو المميز، والذي يحمل قيمة وإضافة للآخرين.

د. عبدالله سهر

سفيرا الشرق... الزمانان ومعرفي... حين تصبح للدبلوماسية معانٍ
لا تُقاس الدبلوماسية بعدد البيانات والتصريحات ولا بصرامة البروتوكول وحده، بل تُقاس قبل ذلك بقدرة صاحبها على أن يجعل من حضوره رسالة، ومن سلوكه مرآة لوطنه، ومن الموزاييك الصغيرة الملونة جسوراً واسعة بين الثقافات المتعددة. وفي أسفار الشرق، بين طوكيو وشنغهاي، تتجلّى هذه الحقيقة في وجوه رجال أدركوا أن تمثيل الدولة ليس وظيفة فحسب، بل مسؤولية أخلاقية ومعرفية وإنسانية.حين أمضيت فترة كأستاذ زائر في جامعة واسيدا بطوكيو، ومحاضر في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، بدا لي أن التجربة الأكاديمية، على عمقها وثرائها، لم تكن وحدها ما يمنح الرحلة معناها الأوسع. فقد شاءت الأقدار أن ألتقي بنماذج دبلوماسية كويتية نادرة، لا تحضر بأسمائها ومناصبها فقط، بل بحضورها الإنساني الذي يترك أثراً أبقى من نقش الكلمات على الحجر.في طوكيو، مدينة الشمس الصاعدة التي لا تكشف أسرارها إلا لمن يُحسن الإصغاء، التقيت بسعادة السفير سامي الزمانان. لم ينتظر دعوة رسمية أو موعداً بروتوكولياً، بل بادر، في اليوم التالي لوصولي، بزيارة كريمة إلى فندق إقامتي. كانت تلك المبادرة في ظاهرها بسيطة، لكنها في جوهرها تكتنز الكثير عن رجل يفهم الدبلوماسية بوصفها فن اتقان القرب لا فن إبقاء المسافة، وبحسن دفء المبادرة لا برسمية برودة الإجراءات.أبا براك، لم يكن مضيفاً كريماً فحسب، بل بدا لي كمن يحمل السفارة في قلبه أينما ذهب. كان البيت الآمن لكل كويتي قصد اليابان طالباً للعلم أو المعرفة، والسند الهادئ الذي يمنح الطمأنينة بروح طيبة.في حضوره متابعة دقيقة، وفي سلوكه ذكاء متوقد، وفي عمله إيمان راسخ بأن الدبلوماسي الحقيقي هو من يُجيد الإصغاء بقدر ما يُحسن الكلام. ويسنده في ذلك رجال ونساء أفذاذ في السفارة وعلى رأسهم المتألق الشيخ جابر الصباح، الذي حرص على حضوره في إحدى محاضراتي في الجامعة كي يساند ويشارك ويعطي بُعداً جديداً لمعنى الدبلوماسية الثقافية.وقد تجلّى أثر هذا النهج في علاقاته الواسعة داخل المجتمع الياباني، حتى مع أطفال المدارس الذين أحبوه، فأحبوا معه الكويت، وردّدوا نشيدها الوطني ببراءة تختصر المعنى الأعمق للدبلوماسية الناعمة.كما كان حريصاً على مد خيوط الذاكرة المشتركة مع المثقفين اليابانيين الذين درسوا في الكويت أو عاشوا فيها، ليحول التجربة الإنسانية إلى نبع دائم يسقي زروع التفاهم والاحترام المتبادل.ولم تكن حركته حبيسة جدران السفارة، بل كان حاضراً في المنتديات والمحافل والندوات، محاضراً حيناً، وزائراً حيناً آخر، وممثلاً لدولته في كل حين، يرفع رايتها بثقة، ويعزّز مكانتها بهدوء، وينشر رسالتها الإنسانية بعيداً عن الصخب والتصنع.وفي شنغهاي، مدينة السحر التي لا تنام، حيث تتقاطع المصالح التجارية وتتنافس القوى السياسية، يصنع سعادة القنصل العام أنس معرفي، حضوراً كويتياً لافتاً، أشبه بضوءٍ ثابت ساطع في مدينة تعج بالأضواء المتحركة. بمعية فريقه المتماسك، لا سيما نائبه اللبق والنشط السيد سعد خليل، يؤدي معرفي، أدواراً متعددة في آنٍ واحد، وكأنه يجسّد معنى الدبلوماسي الشامل.هو حاضر في اللقاءات الرسمية، قريب من الوفود التجارية، متابع دقيق للتحولات الاقتصادية والسياسية في دولة عظمى تعيد تشكيل موازين القوة العالمية. ومع ذلك، لا يبدو مثقلاً بالوقت، بل كمن يملك ساعة تتسع لأكثر من زمن، يعرف كيف يوزع الجهد، وكيف يمنح كل ملف حقه بتروٍّ دون استعجال أو إهمال.وبوصفي باحثاً في العلاقات الدولية، وتشرفت بتدريس عدد كبير من الدبلوماسيين الكويتيين في جامعة الكويت، أدرك تماماً أن ما نشهده في تجربتي الزمانان ومعرفي، ليس مصادفة فردية، بل نتاج عمل مؤسسي متراكم، تقوده وزارة الخارجية الكويتية برؤية هادئة هادفة، تؤمن بأن الدبلوماسية ليست استعراضاً للقوة، بل إدارة حكيمة للتوازن المرن.هؤلاء الدبلوماسيون هم استثمار وطني حقيقي، يعكس هوية دولة اختارت الوسطية نهجاً، والعقلانية مساراً، والإنسان قيمة عليا في علاقاتها الخارجية. وقد تعجز اللغة، مهما بلغت بلاغتها، عن الإحاطة بفضلهم، لكن يكفي أن نقول إن الكويت، حين تُرى في وجوه هؤلاء الرجال، تُرى واثقة، متزنة، ومحل احترام لدى الشعوب والحكومات.هكذا، في الشرق البعيد، لا تكون المسافة حاجزاً، بل فرصة لاستشراف المستقبل، ولا تكون الدبلوماسية منصباً، بل معنى يتجسّد في السلوك قبل المقال، وحيثما يكون الدبلوماسي إنساناً مبدعاً قبل أن يكون موفداً رسمياً.

مقالات

م. أحمد عبدالهادي السدحان

نهايات الكفاءات!
نهاية الحلم الوظيفي لدى بعض الكفاءات عند التقاعد أو قبله تمثل بحد ذاتها درساً قاسياً في الحياة، ويتبين بعدها أنه (كابوس) وظيفي وليس حلماً كما كان يتصور أو يحلم بطيبة بريئة في بدايته في المسار الوظيفي.وأصبح هذا الشعور الزائف عند هذا البعض من المكافحين والكادحين مجرد حلم وهمي أو سراب في صحراء المتاهات والدهاليز الإدارية والوظيفية، وجاء الإدراك المتأخر جداً بأنه لم يحصل على تقدير عملي يتناسب مع عطائه أو وضع يليق به أو منصب مناسب له، لكي يساهم بنهضة بلده، حاله حال العديد ممن حصل على هذه المناصب، والبعض منهم -للأسف وقلتها مراراً وتكراراً- قد جاء بلا تدرج أو تعب.والأسئلة المنطقية هنا كيف يستطيع أن يدير المنصب؟! وهل خبرته كافية؟! وهل قراراته واعيه؟! وهل جهده البسيط يسعفه باتخاذ القرار المناسب؟!لذا، جاءت الحكمة والمقولة الذهبية والتي قد تكون نادرة في بعض الأماكن وهي (الرجل المناسب في المكان المناسب!) وهنا ليس المظلوم والمنسي صاحب الكفاءة فقط بل الدولة نفسها حيث الأموال التي تم إنفاقها في السابق والجهود التعليمية والتربوية والأكاديمية التي تم بذلها على مر السنين لتأهيلهم تعتبر مُهدرة. لأنه لم تتم الاستفادة من تلك الكفاءات بالشكل المطلوب، وذلك لخدمة مصالح البلاد والعباد، وبالتالي هذه الكفاءة المهملة تضيع وتهمل وتنسى في بعض الوزارات والجهات الحكومية، وذلك نتيجة التجميد أو عدم الاهتمام أو عدم إعطائهم الوظائف الإشرافية المناسبة والمستحقة لهم، أو عدم الاستفادة منهم، وبالتالي يتم تعطيل وإهدار تلك العُقول والكوادر والخاسر الأكبر نتيجة ذلك هي الدولة كما ذكرت، والتي لم تستفد من تعليمهم أو خبراتهم! ومن أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع السيئ هو وجود ما حصل من محسوبية والتي يمارسها بعض المسؤولين وهم بذلك ينشرون الإحباط ويجعلون العملية كأنها (صراع إداري) والفائز الذي لديه علاقات أكثر! وهي رسالة برمجة للعقل الباطن إن جاز الوصف بأنه ليس المهم أن تسلك طريق الكفاح الوظيفي بل أن تسلك طريق الواسطات والتوصيات والديوانيات المؤثرة وأن تعرف كيف تأكل الكتف! والخلاصة، الله يعين المكافح المنسي وقد تكون نهايات الكفاءات في الوظائف ولكن قصته لم تنته وعوضه بالدنيا والآخرة من الله تعالى.وما يصح إلا الصحيح. والله عزوجل المعين في كل الأحوال.X @Alsadhankw

عبدالله خلف

حُسن المخاطبة مع الناس
مما كُتب في التهنئة بميلاد الأولاد لأبي منصور الثعالبي، المتوفى سنة 429 هــ ... وحسن مخاطبة النساء أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء وأم الأبناء، وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار.ولو كان النساء كمثل هذيلفضلت النساء على الرجالفما التأنيث لاسْم الشمس عيبٌولا التذكير فخر للهلاليمتعض بعض الرجال عندما يُبشر بميلاد أنثى له ... فالدنيا بأسرها مؤنثة والأرض مؤنثة، السّماء مؤنثة والحياة والجنة والكواكب من الإناث.والناس ألف منهم كواحدوواحد كالألف إن أمر عنىوقالوا في الدنيا:إنّ الدنيا دارُ لمن صدّقها ودار عافية لمن فهمها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ منها ...عهد الإمام علي، عليه السلام، لمالك بن الحارث الأشتر، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها وعمارة بلادها... واعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور واشعر قلبك للرعية والمحبة لهم والطف بهم، ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، ويفرط منهم الزّلل.. أنصف الله وأنصف الناس، من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك... ومَن أحبه الله، أحبه الناس.

موسى بهبهاني

الرحّالة الوطني محمد عقيل مسلم
(الرجال والرجال قليلُ)... هناك سير لابد أن نتوقف عندها... سيرة رجل مكافح ومحب لوطنه، نذكر له بعض المواقف، إنه الرحّالة الكويتي / محمد عقيل مسلم.طاف هذا الرجل دول العالم على دراجة هوائية صُنعت في عام 1919 والتي تم سلبها منه في جنوب اليمن أثناء رحلته، ومن ثم أهداه المعسكر البريطاني دراجة foldable (قابلة للطي)، صنعت في عام 1922 وأكمل رحلته بها.البدايةالرحالة محمد عقيل من مواليد سنة 1939 كان طالباً في ثانوية الشويخ، شاهد دراجة نارية موضوعة بجانبها خيمة صغيرة، فبادر الحديث مع صاحب الدراجة النارية الذي قال له بانه مواطن ألماني يُدعى هونز برجا، وقد بدأ رحلته من أوروبا وسيستكمل الرحلة مروراً بالدول الخليجية.وهنا قال له الرحالة الكويتي بأنه سيجوب جميع دول العالم على دراجة هوائية، فرد الرحالة الألماني بتعالٍ، وقال بأنكم أنتم العرب لن تتمكنوا من القيام بتلك الرحلات بسبب الجهد والتعب والمشقة والمخاطر، وهنا كان التحدي بين الشاب الكويتي محمد عقيل والرحالة الألماني.بعد التخرّج من الثانوية العامة انتسب إلى الجيش، ثم بدأ بالتحضير والتدريب على قيادة الدراجة الهوائية لمسافات طويلة، ولم يبلّغ محمد عقيل، والدته، رحمها الله، بأنه سيقوم بتلك المغامرة الخطرة خوفاً عليها من التفكير، بل أبلغها بأنه سيكمل دراسته الجامعية، مفضلاً إخفاء الحقيقة عنها للحفاظ على سلامها النفسي، بل كان يومياً يدعو لها ويطلب رضاها لأنه لم يبلغها بتلك المغامرة.فسافر -محمد عقيل - إلى ألمانيا وابتاع الدراجة الهوائية وقام بالتدريب المكثف لبناء اللياقية البدنية والعضلية وإنقاص الوزن، وبعد الاستعداد البدني والنفسي، بدأ الرحلة حول دول العالم في عام 1962، وهو في عمر الـ23 عاماً، وكان كتاب الله المجيد -القرآن الكريم - معه طوال الرحلة، فهو ربيع القلوب وأنيس النفوس، والمواظبة على قراءته تُذهب الهم والغم والحزن والضيق.استخدم الرحالة - محمد عقيل - الدراجة الهوائية راكباً إياها في المناطق المنبسطة، وفي المناطق الوعرة حاملاً لها، وعند عبور البحار مستخدماً السفن، وفي بعض المناطق الخطرة استخدم المنطاد لعبورها، رحلة شاقة وخطرة محفوفة بالمخاطر الكثيرة.وبالفعل تعرّض لتلك المخاطر من الحروب الأهلية في بعض البلدان، وقبائل أكلة لحوم البشر، والحيوانات المتوحشة، والثعابين، والبعوض، والحشرات المؤذية، والأسماك الخطرة، وشُح الطعام والماء، وتعرّض للغرق بالبحر لأيام عدة اثناء تحليقه بالمنطاد في كوريا، حتى تم إنقاذه بواسطة سفينة مبحرة... إلا أن إرادة هذا الشاب كانت هي شفرة وسر النجاح، فتمكن بكل جدارة من تحقيق الرقم العالمي في تلك الرحلة.تغرب عن الأوطان في طلب العلاوسافر ففي الأسفار خمس فوائدتفرّج هم واكتساب معيشةوعلم وآداب وصحبة ماجدخير سفير للوطن:الرحالة - محمد عقيل - التقى بكثير من الشخصيات، منهم ملوك ورؤساء دول والذين استقبلوه بكل حفاوة في تناول وجبة الغداء في البيت الأبيض مع الرئيس جون كينيدي، وصلى صلاة الظهر في إحدى غرفه، وركب معه الرئيس السوفياتي خروتشوف، بالمركبة البرمائية (اشتراها من فرنسا)، وأهدوه خطابات وميداليات وهدايا تذكارية، فكان خير سفيرٍ لوطنه.هدايا و شهادات تقديرية نادرة من رؤساء وحكام الدول:- رسالة خطية من أمير دولة الكويت الشيخ /عبدالله السالم، طيّب الله ثراه، وأطلق عليه لقب ابن الكويت البار.- حاكم السعودية الملك سعود بن عبدالعزيز، طيّب الله ثراه، أهداه سيفاً ذهبياً.- حاكم الأردن الملك حسين أهداه مسدساً.- إمبراطور اليابان الإمبراطور هيروهيتو أهداه كاميرا وجهاز راديو.- الرئيس جمال عبدالناصر، أهداه ميدالية النيل من الدرجة الأولى.- حاكم العراق عبدالسلام عارف.- الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف.- الرئيس الأميركي جون كينيدي.-الرئيس الهندي جواهر لال نهرو.- الرئيس الماليزي.- كان أول عربي يدخل الجزائر بعد استقلالها مباشرة، وتم وضع اسمه على النصب التذكاري في الجزائر.وغيرهم الكثيرون من الشخصيات الذين قابلهم الرحالة الكويتي محمد عقيل، خلال فترة مروره بدول العالم.فترة الرحلة:استغرقت فترة رحلة الرحالة -محمد عقيل- 9 سنوات لتغطية دول العالم، منها 6 سنوات على الدراجة الهوائية، و3 سنوات باستخدام مركبته البرمائية للمرور في أجزاء من أوروبا وآسيا.التغطية الإعلاميةفي كل دولة ذهب إليها كانت الجرائد العالمية تكتب عنه، كذلك بدأ بكتابة التقارير اليومية للجرائد والمجلات مقابل أجر بسيط، في عامود اسمه «نافذة على العالم» لاطلاع القارئ على أخبار الرحالة الكويتي.ختام الرحلة- أهدى دراجته الهوائية للمتحف البريطاني ومسجل اسمه عليها.- بعد أن فاز بالتحدي أخذ الميداليات والكؤوس من الرحّالة الألماني وقدمها هدية لجامعة الدول العربية.ففي تلك الرحلة حول العالم أتاحت له فرصة ذهبية لمعرفة الشعوب واللغات والعادات والتقاليد، وحققت له الكثير من النجاحات.أثناء غزو الكويت:منذ اليوم الأول للغزو الغاشم سنة 1990، قام بالتواصل مع كوكبة من أصدقائه زملاء السلاح لتشكيل مجاميع للمقاومة لحماية الوطن، وكان الاتصال مباشرة مع القيادة السياسية باستخدام الهاتف عبر الأقمار الاصطناعية، وتم تشكيل مجاميع تضم جميع أطياف المجتمع، وقاموا منذ اليوم الأول بنقل الأسلحة من المعسكرات إلى المنازل في مناطق عدة، وتم تقسيم المجموعات كل مجموعة تتكوّن من 5 أفراد.وبوشاية تم إلقاء القبض على الرحّالة -محمد عقيل -و تم أسره ونقله إلى سجون عدة في العراق، وتعرض لأبشع أنواع التعذيب باستخدام السلك الكهربائي -وخلع الأظافر- والتعليق من الرجلين والضرب المبرح - ومع ذلك لم يبلّغ عن أي شخص ممَنْ عملوا معه في مقاومة المحتل، وتم إصدار حكم الإعدام بحقه، وكان محتسباً إلى المولى عز وجل ومسلّماً أمره إليه، وكتب المولى عز وجل له النجاة، وتم فك أسره بواسطة الصليب الأحمر وعاد إلى الوطن حراً كما عادت الكويت حرة أبيّة.ختاماً:الرحّالة -محمد عقيل مسلم - من الشخصيات البارزة في الوطن له بصمات لا تُمحى، ففي وقت الرخاء قام بهذه المغامرة المميزة للسفر إلى دول العالم مستخدماً دراجة هوائية لرفع اسم الكويت في المحافل العالمية، وفي وقت الشدة ابان الغزو الغاشم و لحبه اللامحدود لوطنه قام بمقاومة المحتل لدحره عن وطنه.فتلك الشخصية وغيرها الكثيرون لهم الحق علينا لتكريمهم، وذكر أعمالهم للأجيال القادمة من خلال وزارة التربية، والإعلام المرئي والمسموع، فتلك الشخصيات لها سيرة نجاح ملهمة للشباب.اللهم احفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمد لله رب العالمين.

سالم النخيلان

بيع الوهم
في هذا الزمن المتسارع بخطواته التي أظنها مدروسة، ونحن نحاول اللحاق بجريها بغير دراسة، يتعرّض الإنسان إلى أزمات ومشكلات نفسية وأُسرية واجتماعية ومادية، فيهرب من واقعه المؤلم إلى عالمه الوهمي المخدِّر، بدلاً من مواجهة الواقع واتخاذ قرار ودراسة الحال، والتفكير في حلٍّ يكون جذرياً أو موقتاً مدروساً لحين إيجاد الحل الجذري أو اتضاح الرؤية.وخلال هذا الهروب، يرتمي في حضن صانعي المحتوى الفارغون من المحتوى، الذين يُجملون الظاهر بإيماءات وكلمات وجمل، مع بعض التلاعب بالصوت لدغدغة مشاعر المشاهد، دون إيجاد حل، غير إيهام الموهوم أنه على حق، وإن كان على حق فعلاً، وتغييبِه عن الواقع بكلمات وأساليب تُخدِّره ومشاهد قصيرة لا يمل من مشاهدتها وسماعها.مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، أُتيحت الفرصة لشخصيات تجيد التظاهر كالخيال أو تدربت عليه، وتحسن التواجد لا الوجود، وتصطاد كل شاردٍ من الواقع المؤلم بطبيعة الحال، والحياة التي لا تخلو. فعندما يتعرّض الفرد إلى أي مشكلة، فبدلاً من إعمال العقل بالتفكير وإعطاء المشاعر حاصلها للتفاعل مع الحال المناسب لما حل بالفرد، تجده يهرب من نفسه وذاته وعقله وتفكيره، هروب الخائف من تفكيره وعقله إلى وسائل التواصل الاجتماعي، هارباً من ذاته لمن يوهمه بمساعدته بالبحث عنها. ومع أول طُعمٍ يُجمِّل له الكلام ويُحسن له التقديم، فيُسلِّم العقل والقلب والروح وجميع وسائل الإدراك الحسية والمعنوية، ليحرِّكه المسمي نفسه صانع محتوى، ويلعب بمشاعره ويملي على عقله الفارغ ما يريده، وما المتلقي بأفرغ من المُلقي، ولا أملأ من المُملي.عندما كنت صغيراً، كنت أحفظ حديثاً نبوياً يقول فيه رسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،:(إنّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناسُ رؤساً جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلّوا وأضلوا).كثيراً ممن يسمون أنفسهم صناع محتوى، ويتحدثون بقضايا نفسية واجتماعية وتربوية وزوجية ومالية، مع تفخيم طبقة الصوت؛ كلامٌ يُقال لإثارة الفارغين العاجزين عن البحث الحقيقي في ما يعانونه من مشكلات، مسنداً كلامه وحديثه ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ليس لوجودها في سياق حديثه أي دليل عقلي أو ارتباط شرطي أو تشابه حال. ولو أطلق الموهوم القليل من التفكير، لعرف أن ما يتلقاه لا يغيّر واقعاً، ولا يداوي ألماً، ولا يحل قضية، وما مشاهدته إلا زيادة في الضياع، ولكن عن رضاً منه.مع وجود صانعي الوهم، الموهومين بأنفسهم أولاً، والمتوهمين بالنجاح ثانياً، والبائعين لوهمهم ثالثاً لوجود من يشتري في سوق التواصل الاجتماعي، لن يكون هناك تغير في حال المتسلي بحديثهم، غير ضياع الحقيقة والسير خلف خطى الضائع الذي يظن نفسه ناجياً، بل ويمد يده لينجي غيره بلا دليل ولا معرفة ولا فهم.أعتقد أن ما يحصل في وسائل التواصل الاجتماعي ينقص قيمتنا الإنسانية في التمييز بين الرديء والجيد من الأفكار والمفاهيم والقيم، لمجرد ظهور من يحسن العرض رغم فراغ المحتوى عقلاً وقلباً وروحاً. فأسرع ما يملكه الفارغ من المحتوى أن يقدم القليل من الكلام المنمق، بدلاً من أن يدرس بحثاً في الأثر وبُعد ما ينطق به. والأسرع والأهون علينا أن نستمع لما نريده، وإن لم يوافق هوانا انتقلنا للذي بعده، إلى أن نجد هوانا، فيكون الموافق لهوانا موافقاً للحقيقة، وهو المصدق في القول دون تحقق أو بحث.

خيرالله خيرالله

نهاية حزينة لشارع الحمرا...
لعلّ أكثر ما يصدم من يزور بيروت هذه الأيام ما آل إليه شارع الحمراء المشهور والشوارع المحيطة به. يبدو كأنّ جزءاً من بيروت انفكّ عن بيروت. لم تعد من علاقة للناس الموجودة في الحمراء ومحيطه بالناس التي كانت في هذا الشارع الذي شكّل في مرحلة معيّنة رمزاً للبنان المزدهر ولبيروت كمدينة جامعة بالفعل لكلّ ما هو حضاري في الشرق والغرب وشمال الكرة الأرضيّة وجنوبها.بات شارع الحمراء، بوضعه الراهن، تعبيراً عن ضحالة الحياة السياسية اللبنانية من جهة وعنواناً لتجفيف العلاقة بين اللبنانيين والعرب والأوروبيين والأميركيين تنفيذاً لرغبة في عزل لبنان وإفقاره.في الماضي القريب، استفاد شارع الحمراء، أو الحمرا كما كان يسميه رواده واللبنانيون عموماً، من عوامل عدة. تحوّل في مرحلة معيّنة إلى الشارع الأكثر شهرة في العالم العربي. بين هذه العوامل التي استفاد منها الشارع قربه من الجامعة الأمريكيّة في بيروت التي لعبت دوراً أساسياً في تحقيق نهضة لبنان وبيروت منذ تأسست في العام 1866.لم يكن بروز الحمرا بعيداً عن مرحلة ما بعد أحداث العام 1958 وانتقال قسم كبير من النشاط التجاري والثقافي من وسط المدينة إلى رأس بيروت التي تميزت دائماً بالتنوع ونمط حياة خاص بها. سماها الراحل سمير صنبر، اللبناني الفلسطيني الأصل الذي شغل مواقع مهمّة في الأمم المتحدة وأحد الذين عايشوا تلك الفترة الذهبية «جمهوريّة رأس بيروت». أصدر صنبر، كتاباً بهذا العنوان تذكّر فيه طريقة عيش فريدة من نوعها في هذا الجزء من لبنان، خصوصاً على مستوى أسلوب التعامل والتهذيب والرقيّ.في مطلع الستينات من القرن العشرين، صارت معظم صالات السينما والمسارح في الحمرا حيث اشتهر مقهى «هورس شو» الذي قامت بالقرب منه مقاه عدة منافسة.كذلك، انتقلت إلى مدخل الحمرا جريدة «النهار» التي كانت في سوق الطويلة. رأى غسان تويني، باكراً، منذ مطلع الستينات، أين مستقبل المدينة. كذلك، رآه مع نجله جبران في زمن لاحق، زمن النصف الأوّل من التسعينات، حين انتقلت «النهار» إلى وسط بيروت الذي أعاد الحياة إليه رفيق الحريري، الرجل الذي كان «مهووساً بلبنان وبيروت» على حد تعبير الصديق والزميل نهاد المشنوق.سقط شارع الحمراء على مراحل حين بدأت هجرة الأجانب والمسيحيين منه بعد حرب 1975 التي كانت حرباً لبنانيّة – لبنانيّة وحروب الآخرين على أرض لبنان. لا تتحمّل المنظمات الفلسطينية وحدها مسؤولية التدهور الذي ظهرت بوادره وقتذاك، بل هناك مسؤولية كبرى للنظام السوري الذي كان على رأسه حافظ الأسد، الذي أراد تدمير بيروت على رؤوس أهلها بصفة كونها مدينة من المدن المنفتحة على العالم. كان لديه حقد ليس بعده حقد على أهلها، خصوصاً أهل المدن أكان ذلك في سوريا أو في لبنان.لكن الضربة الكبرى لبيروت ورأس بيروت تحديداً وشارع الحمرا ومحيطه كانت في استخدام المنظمات الفلسطينية تنظيمات محلّية في عملية القضاء على العيش المشترك في البداية وفي حروب على الدولة اللبنانية بحجة الانتهاء من حكم «المارونيّة السياسيّة». خرج صائب سلام، من المدينة ليحل مكانه «المرابطون» الذين كانوا تحت سيطرة فلسطينيّة كاملة!بات ما نشهده حالياً نهاية حزينة لرأس بيروت وشارع الحمرا على الرغم من وجود جزر لاتزال تقاوم البؤس. في الواقع، إنّ ما نشهده تتمة للحدث الكبير، الذي شكّل نقطة التحوّل، في 6 فبراير 1984. يومذاك، خرج الجيش اللبناني من ما كان يسمّى بيروت الغربية وحلت مكانه الميليشيات.منذ ذلك اليوم، تغيّرت بيروت الغربيّة كلّيا، بما في ذلك رأس بيروت. تغيّرت على مراحل وصولاً إلى ما وصل إليه شارع الحمراء، أو الحمرا، حيث تنتشر الآن الفوضى من دون حسيب أو رقيب في ظلّ غياب كامل للدولة بكل مؤسساتها وأدواتها. لا تشمل الفوضى حركة السير فحسب، بل هناك أيضاً اعتداء واضح على الرصيف والنظافة. زال الرصيف من الوجود في هذه المنطقة وترهلت البنايات وتحولت المساحات الخضراء مكباً للنفايات...أين وزارة الداخلية؟ أين المحافظ؟ أين بلدية بيروت؟ أين نواب العاصمة الذين لا يعيرون أي أهمّية لما يدور في شارع الحمرا؟ هناك غياب تام للجميع عن هذه البقعة العزيزة من بيروت التي تعرّضت لتغيير ديموغرافي أقلّ ما يمكن أن يوصف به أنّّه تغيير في غاية البشاعة والبؤس.كلّ ما هو مطلوب أن تعي الدولة اللبنانية، على أعلى المستويات ما يدور على الأرض وذلك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا الجزء من بيروت الذي تحوّل إلى سلة للمهملات. يبدأ الوعي بالنزول إلى الشارع ومعاينة الوضع وطرح أسئلة من نوع هل من خطوات يمكن الإقدام عليها تفادياً لانتشار العدوى التي أصيب بها شارع الحمرا إلى ما هو أبعد منه. الأكيد أن الحمرا في حاجة إلى معالجة سريعة يمكن أن تبدأ بتنظيم سير الدراجات الناريّة ثم بالتدقيق بهويات المقيمين بغض النظر عن الجنسية العربيّة أو غير العربيّة التي ينتمون إليها.الحاجة إلى تحرّك للدولة قبل فوات الأوان. الحاجة إلى عملية إنقاذ وإن بدءا بخطوات متواضعة. الأمر الوحيد الأكيد أنّه ليس مسموحاً بقاء الأمور على حالها، كون أي إهمال يشكل دعوة إلى انتشار للمرض الخبيث الذي يعاني منه الحمرا ومحيطه.

د. وليد التنيب

رمي فضلات الطعام
هناك أمور عدة لا تعلم من هو المسؤول عنها، ومن هو المطلوب منه تنظيم هذه الأمور لكي لا تتفاقم وتخرج عن السيطرة، ويزيد تساؤلك أحياناً ليصل لمرحلة التفكير هل بالفعل هناك قانون ينظم هذه الأعمال، أم أننا نفتقد القانون المنظم، وبغياب القانون فإن غياب المسؤول ليس بمستغرب...؟إن مسألة وضع الطعام للحمام والقطط أصبحت ظاهرة تتمدد مع الوقت، فرمي فضلات الطعام على الأرصفة وبالشوارع يمكن للغالبية ملاحظته، حتى أصبح البعض يتجنب المرور على بعض الأرصفة خوفاً من المشي فوق الطعام، وتجنباً للمشي فوق أوساخ الحيوانات، ناهيك عن المنظر والروائح التي انتشرت بالمكان بسبب رمي الطعام فوق تلك الأرصفة...إن وجود الطعام على الأرصفة والأماكن العامة بهذا الطريقة له مساوئ عديدة، وهو بؤرة لانتشار الأمراض وبالطبع يساعد على انتشار القوارض والحشرات، والأهم ألم تسأل نفسك قبل إلقاء فضلات الطعام من هو المسؤول عن تنظيف المكان، فالمزارع وأماكن تربية الحيوانات يتم تنظيفها بشكل منتظم منعاً لانتشار الأمراض بين الحيوانات ومنعاً لانتقال هذه الأمراض للبشر...في غالبية المنتزهات والحدائق تلاحظ وجود لافتات تحث رواد تلك المنتزهات على الامتناع عن إطعام الحيوانات، وهذا المنع ليس كرهاً أو حقداً على الحيوانات إنما من أجل مصلحة الجميع من رواد لتلك المنتزهات وللحيوانات أيضاً، فالحيوانات تتضرر من وجود المواد المضافة كالملح والبهارات التي تكثر بطعام الإنسان...لقد أصبحنا بحاجة لحملة تثقيفية من أجل وقف تلك الأعمال، فوجود القانون وحده في مثل تلك الأمور لا يكفي، إنما زيادة الوعي وتثقيف المجتمع هما الأساس الذي تبني عليه المجتمعات تقدمها...