No Script

ملكــة الليــل بديعة مصابني / الحلقة الخامسة / استعانت بالحراسة الخاصة لحمايتها وصالاتها

الملكة ونفوذ «الفتوّات»... في شارع «الكباريهات»

تصغير
تكبير
| القاهرة - من محمود متولي |

أكثر من «30» عاما قضتها الراقصة اللبنانية «المولد» والمصرية «الإقامة» ذات الشهرة الواسعة بديعة مصابني، التي تقترب أحداث حياتها من الأساطير بعد أن صالت وجالت في عالم الفن منذ انتقالها من بلاد الشام إلى القاهرة في عام 1910.

استطاعت مصابني - بحسب مذكرات وحوارات ومقالات رصدتها مسيرة حياتها - أن تحقق خلال مشوارها الفني الحافل شهرة طاغية فقد تربعت على عرش الرقص الشرقي لأكثر من ربع قرن، وحظيت بالعديد من الألقاب منها «الراقصة الأولى في مصر والشرق الأوسط» و«ملكة الشيشة والنرجيلة»، و«ملكة الملاهي الليلية» وغيرها...

ولعبت الفنانة مصابني خلال فترة عملها دورا مؤثرا في الحياة السياسية بمصر بل وشكلت جزءا من تاريخ مصر الفني والسياسي والاجتماعي، ما جعلها تمتلك سطوة وسلطانا يفتقده الكثير من الرجال سهَّل مهمتها في السيطرة على صعاليك وفتوّات شارع «عماد الدين» ورجال السياسة والحكم والاحتلال الإنكليزي آنذاك الذين كانوا زبائن دائمين في صالاتها. كما تخرّج على يديها عشرات الراقصات اللاتي حققن انتشارا بعد ذلك مثل تحية كاريوكا وسامية جمال وحكمت فهمي وصفية حلمي وببا عزالدين وغيرهن.

في هذه السلسلة نستعرض سيرة بديعة مصابني وحكايتها في حلقات عبر سطور «الراي» ونسلط الضوء على مسيرتها الفنية وعلاقتها بالحياة السياسية المصرية في تلك الأيام:

كانت مصر - خلال الفترة من عام 1933 حتى عام 1936 - في هذه الفترة تعيش حالة من الفساد والقلق السياسي وتعدد الأحزاب التي تتوالى على الحكم باسم الديموقراطية والاحتلال البريطاني الذي يتحكم في كل شيء حتى في المعارضة داخل البرلمان وتعيين رؤساء الحكومات، قبل أن تنتهي الفترة بمعاهدة 1936 التي ثبتت أقدام الاحتلال في مصر في ذلك الحين.

كان الاحتلال في ذلك الوقت يحمي فئة جديدة عرفت في مصر باسم «الفتوات» فهي تعيش على «البلطجة» وفرض « إتاوات» أو ضرائب على أصحاب الصالات والراقصات، وتتخذ مسرحاً لأعمالها منطقة «عماد الدين» التي كانت مشهورة بالملاهي الليلية.

وأثبتت أحداث تلك الفترة أنه كان لهؤلاء الفتوات علاقة مباشرة بهذا العصر وبفنانات عماد الدين، بل ببديعة مصابني ذاتها، وما يدل على ذلك وجود ثلاثة مظاهر لهذا الارتباط، أولها: أن معظم هؤلاء الفتوات الذين ظهروا في فترة ما بين الثلاثينات والأربعينات وظفوا أدوارهم لحماية عدد كبير من الفنانين والفنانات الذين ملأوا سمع وبصر الدنيا في تلك الفترة، هذه الحماية المفروضة استمدت أهميتها من استعانة بعض هؤلاء الفنانين بهؤلاء الفتوات لحمايتهم من منافسيهم ومن بعض معجبيهم أيضا، وقد أوجبت هذه الحماية دفع إتاوات أو رواتب شهرية أو أسبوعية أو حتى يومية لهذا الفتوة أو ذاك.

وكان «الفتوة» - حسب تعبير فهمي عبداللطيف - يعتبر نفسه مسؤولا عن الحي الذي يعيش فيه، لذلك كان هو صاحب الكلمة العليا حتى على سكانه وأهله، وبالتالي لا يرضى إلا بأن يعترف له أهل الحي بهذه المكانة بينهم، فإذا أقيم فرح أو مهرجان أو حفل عرس، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا بعد استئذانه والإذعان لحمايته، ولابد أن يكون ذلك الفتوة على رأس هذا المهرجان وإلا كانت العاقبة وخيمة، تبدأ بالكراسي فوق الرؤوس وتنتهي بإسالة الدماء على أروقة الشارع وبقية مناطق الحي.

وكانت صالة بديعة مصابني يتردد عليها السياسيون والأغنياء والعمد وأصحاب الأراضي والملاك وغيرها من الفئات القادرة من الشعب، التي تصرف من دون حساب، ولذلك استعانت ببعض هؤلاء الفتوات لأجل حمايتها بشكل شخصي وحماية صالاتها وروادها وفنانيها من الأعداء والمعجبين ومن اعتداءات رجال الاحتلال البريطاني.

وأصبحت معظم راقصات هذا العصر واقعات تحت نفوذ البلطجية والفتوات الذين احتلوا شارع عماد الدين وغيره من شوارع القاهرة، وكان هؤلاء الفتوات يؤلفون عصابات تفرض الإتاوات على هؤلاء الراقصات يدفعنها صاغرات خوفا من العقاب، ومن أشهر هذه العصابات عصابة فؤاد الشامي الذي دخل هو ورجاله التاريخ الفني.



عقد احتكار

كانت بديعة مصابني شديدة الإحساس بمواهب الراقصات الجدد، وكانت قد سمعت باسم امتثال وشهرتها، فقررت أن تستقدمها إلى ملهاها في القاهرة، ولكن الست بديعة كانت دائما ترجئ هذا القرار لكي تنفذه في الوقت المناسب، وحينما جاء الوقت الذي أحست به بديعة مصابني رحلت لتوها وبنفسها إلى الإسكندرية من أجل إحضار امتثال فوزي التي وجدت في ذلك فرصة للتخلص من الاضطهاد والعذاب الذي ذاقته من زوج أمها عم كامل، الذي استغلها في الرقص وكان يكسب من ورائها الكثير.

ووقعت مصابني مع امتثال عقد احتكار نظير أجر كبير، وفي القاهرة تجددت مواهب امتثال فوزي سواء في الرقص أو في الغناء، وقد لقيت من النجاح عند جمهور ملاهي وصالات القاهرة ما كانت تلقاه عند جمهور الإسكندرية.



محسن بك

وفي صالة بديعة تعرفت امتثال على محسن بك، وكان شابا ثريا أولى امتثال رعاية كبيرة، وبعد أن توطدت العلاقة طلبت منه أن يتدخل لدى بديعة مصابني لترقص «سولو» في الكازينو وبعدها يحضر فؤاد الشامي - وهو أشهر فتوات ذلك العهد الذي يجبر أحد العمد على دفع ثمن المشروبات رغم أنفه - ويتعرف على امتثال ويعجب بها ولكنها لا تهتم به ولا بشهرته، ويحضر أحمد الغدار أحد رجال فؤاد الشامي ليأخذ «الأتاوة» أو «المعلوم» من امتثال بناء على طلب المعلم «الشامي»، ولكن امتثال ترفض ويثور الشامي بعدما علم بما حدث، فكلمته مسموعة والجميع يرهبونه ويعملون له ألف حساب ويقابل مدام بديعة ويطلب منها طرد امتثال ويتحقق الطلب فورًا.

يذهب فؤاد الشامي بنفسه لامتثال في منزلها، ولكنها تقابله باستلطاف ويبدأ الحب بينهما ويعدها بأنه سيجعلها ملكة لـ «عماد الدين»، ويعيدها إلى صالة بديعة، وتدفع «المعلوم» لأنها تعرف « قانون فؤاد الشامي» إلى أن يصل إليه أحد الإنكليز وتكتشف أن علاقته بالإنكليز علاقة مصالح، فتبدأ في النفور منه بعد أن تتذكر ما فعله الجنود الإنكليز معها وتتركه.

وبعد أيام قليلة يتصل محسن بيه بامتثال ليطلب منها أن تحيي ليلة بمناسبة وصول صديق له يدعي «ناجي» من باريس، بعد دراسته لفن الإخراج المسرحي ويقام الحفل ويتعرف ناجي على امتثال ويحبها ويطلب منها أن تعيش معه في بيت واحد وتقبل وتترك حياة الصالات وتعيش معه بلا زواج وتحمل منه لكنه يرفض أن يكون بينهما «طفل» وتحاول التخلص من الجنين ولكن بلا فائدة وتتركه وتعود إلى الإسكندرية عند أمها وتلد طفلة.



«باي... باي»

عندما علم محسن بيه بما حدث لامتثال حضر إلى الإسكندرية، قابلها وشجعها على العودة إلى القاهرة، وبالفعل حضرت معه وتم الاتفاق على افتتاح مسرح جديد في «باب الحديد» يعرف باسم مسرح «البسفور» وتبدأ البروفات، وتتحدى فؤاد الشامي في عدم دفع الإتاوة، ويحذو حذوها جميع صالات عماد الدين ويثور الشامي ويذهب إليها في الصالة في تحد ويبدأ في التفكير للتخلص منها بعد أن جرحت كبرياءه وكرامته، ويذهب اثنان من رجاله إلى الصالة يوم الافتتاح وتطفأ الأنوار وبعنق الزجاجة تقتل امتثال «وتصاب بغيبوبة». وفي ميلودراما صارخة تموت ومن حولها زميلاتها الراقصات ومحسن بيه وأمها وطفلتها الصغيرة التي تحبو على أرض الصالة مع لحن أغنية «باي... باي» التي تعني هنا وداع الحياة.



تحرش

وقد تعددت الروايات التي قيلت حول حيثيات مقتل امتثال... الرواية الأولى تقول تفاصيلها: عندما سيطر فؤاد الشامي على شارع عمادالدين كان مشغولا ورجاله ببعض العمليات التي كانت تدر عليهم الأرباح الوفيرة، ولذلك فقد تركوا الراقصة الجديدة امتثال فوزي تدفع الإتاوة لغيرهم، ولكنه رويدا رويدا وصل إلى مسامعه صيتها وجمالها وثروتها أيضا، الأمر الذي جعله يتحرش بها ويطالبها بأن تدفع له من دون سواه، وعندما رفضت قرر فؤاد الشامي أن يحسم الخلاف لصالحه بأن يتم قتل هذه الراقصة!

وأكد فؤاد الشامي بعد ارتكاب هذه الجريمة أن أحد صبيانه ويدعى محمود الحريري هو الذي قتلها.



ملهى البسفور

أما الرواية الثانية فتقول تفاصيلها: في ملهى «البسفور» بميدان باب الحديد - رمسيس الآن - كانت الراقصة امتثال فوزي في نحو العشرين من عمرها جميلة الصورة وذات قوام ممشوق ترد على تحية الرواد بقبلات ترسلها إليهم في الهواء وهي تتمايل في دلال، وراح الحاضرون يرقصون ويصفقون لها، وشيئا فشيئا ثملت الراقصة فتركت المسرح ونزلت إلى الصالة فاستقبلها الجالسون وقوفا في حماس شديد، بيد أنها لم تكد تخطو خطوتين حتى تسمرت قدماها وراحت تنظر إلى الأمام، إلى حيث وقف كامل الحريري وهو شاب في نحو الخامسة والعشرين من عمره متوسط القامة متين البنيان، التقت عيونهما فسقط قلبها بين ضلوعها إذ تذكرت كيف جاءها قبل يومين هذا الشاب وطلب منها باسم معلمه الكبير فؤاد الشامي أن تدفع له جنيهاً في كل ليلة مقابل حمايتها أسوة بغيرها من فنانات عمادالدين، وكانت امتثال رفضت هذا الطلب، بل أبلغت قسم شرطة الأزبكية بالواقعة، لكن يبدو أن كامل الحريري هذه المرة كان جادا في تهديده وهذا ما شعرت به امتثال، فاستدارت بسرعة إلى الخلف في طريقها إلى كواليس المسرح لتحتمي به لكن كامل الحريري كان قد لحق بها فهجم عليها وغرز في عنقها زجاجة مكسورة ماتت في الحال، وفي قسم الأزبكية اعترف الجاني بقتله امتثال تنفيذا لأوامر فؤاد الشامي.



رجل صالح

أما الرواية الثالثة، فقد جاء في تفاصيلها أن القاتل كامل الحريري معترف بجريمته اعترافا كاملا، وقد قال إن فؤاد الشامي ومختار الشامي قد حضرا إليه في منزله ودعياه إلى وليمة شربوا فيها النبيذ، ثم حرضاه على ارتكاب هذه الجريمة - كما أوردت هذه الرواية وفق ما جاء في الصحف الصادرة آنذاك - وأن والد القاتل رجل صالح رأى الهوة التي انحدر إليها ولده فأقصاه هو وزوجته، وحين علم باعتقال ابنه حضر إلى قسم الأزبكية حيث استنكر الجريمة البشعة.



«علقة» ساخنة

ومن أشهر المعارك التي شهدها شارع عماد - الدين أيضا تلك التي دارت بين بديعة مصابني والناقد الفني عبدالرحمن نصر الذي تعمد الإساءة إليها في مقالاته، وفي إحدى الليالي تربّصت به مجموعة بلطجية بتحريض من «مصابني» وأمسكوا به وكمموه وأوثقوه بالحبال حتى فقد الوعي، فلما استعاده تخلى عن النقد الفني واتجه إلى النقد السياسي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي